أ.د.عثمان بن صالح العامر
هناك قلّة من الناس، يتمتعون بفلسفتهم الشخصية الخاصة، يتفكرون بشغف، يتأملون بعمق، يتدبرون بذكاء، يلتقطون ما يمر بهم من أقوال وصور وأحداث فيخضعونها لمشرحة العقل المتفحص الذي يسبر ويتقصى، يحلل ويستخلص، ومن ثم ينتهون إلى حِكم ودروس وعبر، توصلوا إليها جراء الوقوف المستبصر إزاء تجارب الحياة وأحداثها، التي هي في حقيقتها بين مدٍّ وجزرٍ.
وإن عدّ هؤلاء - وأتكلم هنا عن نفسي - فإن أولهم، وعلى رأس القائمة يأتي صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن سعد بن عبد العزيز الذي ما جالسته، ولا استمعت إليه، إلا وجدت ملمحاً جديداً من فلسفته الشخصية ذات المساس المباشر بالواقع الذي نعايشه، مع أن بعض هذه المواقف والأحداث الحياتية تمر على جلنا مرور الكرام، ونادراً ما نغوص في تفاصيلها لنستخرج مواطن الحكم، ومنابع الفوائد، ومناجم الدروس.
ومن باب الشيء بالشيء يذكر، وحتى أبرهن على ما أوردت أعلاه، فقد زرت سمو الأمير حين كان يرقد في مستشفى التخصصي بالرياض، وقد اصطحبنا - أمده الرب الرؤوف الرحيم بالصحة والعافية - ساعة الزيارة هذه، في رحلة تأملية عميقة، استخلصها من الداء الذي ألم به، والأيام التي قضاها على السرير الأبيض.
بدأ هذه الرحلة بالإشارة إلى أن المرض والبقاء داخل غرف المستشفيات (العمليات والعزل والملاحظة والتنويم) وإن كان في الأصل ابتلاءً وقدراً من الله يُمتحن فيه المسلم، إلا أن في طياته خيراً:
- يجعلك تنظر لنفسك بمنظار آخر، تستحضر ضعفك، عجزك..
- يجعلك تعيد ترتيب أولوياتك في الحياة.
- يجعلك تعرف نعم الله عليك معرفة يقينية، تحس بعظم شأنها، ومن ثم تعيد حساباتك معها واحدة تلو الأخرى، وتعترف اعتراف العبد الذليل بين يدي الله بفضل ربك عليك، وتشكره سبحانه وتعالى عليها. ليس هذا فحسب بل يجعلك تقرر الاستمتاع بها مهما كانت قليلة. ولذا قررت منذ أن كنت في غرفة الملاحظة أن استمتع في كل شيء، وأنتم نصيحتي لكم: (استمتعوا بما أنتم فيه، وجزماً حين يصل الإنسان قمة الاستمتاع بما أعطاه الله مصطحباً القناعة والرضا بالمقسوم من الأرزاق سيقدم أعلى درجات الشكر للمعطي الكريم، وسيخلص في عبادته لمولاه الرحمن الرحيم، ومتى كان كذلك فسيذوق لذة القرب من الله، وبهذا تنال حلاوة الإيمان المتحققة برضا الله عنا، ومتى رضي سبحانه وتعالى عن عبده أرضاه بفضله وكرمه عز وجل).
- لننتقل بعبادتنا وصلاتنا من أدائها باعتبارها واجباً دينياً إلى الاستمتاع بها، واستشعار لذتها الحقيقية ونحن وقوف بين يدي الله، نقرأ كلامه، نناجيه، وندعوه، نركع ونسجد له سبحانه وتعالى تعظيماً وإجلالاً.
- استمتعوا بأطفالكم، بأولادكم، اجعلوا لهم نصيباً وافراً من برنامجكم اليومي، فنحن منشغلون عنهم، لا تكن العلاقة معهم أداءً لواجب الأبوة فحسب، فهم سر من أسرار الحياة السعيدة.
- استمتعوا بأصدقائكم، زملائكم، جيرانكم.
- استمتعوا بأرض وطنكم (المملكة العربية السعودية) الذي هو بحق يختلف عن كل الأوطان، ويكفيه فخراً وشرفاً ومزية وجود الحرمين الشريفين، يكفيه عزاً وسؤدداً وجود قيادة حكيمة رحيمة، عازمة حازمة تولي المواطن جل اهتمامها وفائق رعايتها.
- استمتعوا بحاضركم، ولا تؤجلوا لحظات السعادة للمستقبل الغائب الذي هو بقدر الله وتحت إرادته ومشيئته.
- استمتعوا بكل شيء منحكم إياه الرب سبحانه وتعالى، بشرط أن يكون ذلك بدائرة الحلال ومن المباحات، ولا يترتب عليه إخلال وتقصير بالواجب الشرعي.
- أشكروا الله على أي شيء تشربونه أو تأكلونه أو تلتحفونه أو تلبسونه أو تركبونه، فوالله مرت بي ثلاثة أيام كنت أتمنى وأرجو وأطلب من الطاقم الطبي المشرف أن يذوق حلقي قطرة ماء، وبعدها كانوا يمررون على شفتيّ تلك القطرة التي مازلت أشعر بلذة برودتها. قد لا تصدقون أنني كنت أتمنى كسرة خبز جافة، وما زالت رائحتها بالمكان، فالحرمان من لذة النوم، ولذة الشرب، ولذة الأكل بل لذة الوجود وفقدان الذات حال المرضى تجربة قاسية توجب إعادة برمجة الحياة، والتفكر والتذكر لحال المحرومين مما نحن فيه من نعم، ربما البعض منا لم يقدرها حق قدرها، ولا هو مستشعر قيمتها وعظم فضل الله عليه فيها.
- أعلم أن (المجالس أمانات)، ولكن سقت ما أفاض فيه رعاه الله في ثنايا هذا المقال، لأن سموه الكريم لم يسرّ به لشخصي فقط، بل قال ما سبق أعلاه في مجمع من الزوار، فضلاً عن أن فيما قال درساً يستحق التبصر به، والتذكير فيه، حفظ الله سمو الأمير عبد العزيز (وجه السعد) وأعاده لنا نحن الحائليين سالماً غانماً، صحيحاً معافى ، فهي المرة الأولى منذ أن وطأت قدماه أرض الجبلين قبل ربع قرن يغيب عنها شهراً كاملاً، (وإن شاء الله ما يغيب من شر) دمتم بخير، وتقبلوا صادق الود، وإلى لقاء والسلام.