د.عبدالله بن موسى الطاير
كانت كلمة «لا» عصية على لساني، استكثرها، وأخشى من وقعها على الطرف المقابل، بغض النظر عن معرفتي به من عدمها، وأشعر بالذنب إذا اضطررت لقولها، أما كلمة «نعم» فسهلة يسيرة تجري إلى طرف لساني بسلاسة مع تبعاتها النفسية والاجتماعية التي قد لا أطيقها أحياناً. ومن الطبيعي أن أتحمل وزر «نعم» عندما تكون في حدود مسؤولياتي وإمكاناتي الشخصية، ولكن كيف لي بتبعاتها عندما أعِد بها فيما لا أملك من شؤون المصالح العامة التي تحكمها أنظمة ولوائح؟ في حياتي العلمية والعمل الجامعي لم أكن أجد غضاضة في قول «نعم، حاضر، أبشر، موافق» فهي في حدود ما أملك تنفيذه من وقتي ومالي وجهدي، ومثل هذا الالتزام يشق علي لأني اجتهد فوق طاقتي للوفاء به على حساب وقتي وراحتي وحرية خياراتي ومصالحي، ومع ذلك أمارسه برحابة صدر لخدمة الآخرين.
ومع أول منصب إداري اصطدمت بواقع لا مناص فيه من استخدام كلمة «لا» وبدون شعور بالذنب، وبدون محسنات بديعية، أو مقدمات اعتذارية، أو حتى اختلاق قصص كاذبة، لأنني ببساطة لم أكن أملك القرار لأعد به، ولأن البعض يُلِحون في طلباتهم مع معرفتهم السابقة أنني لا أملك تلبيتها، ويجتهد البعض في الإيقاع بك لتحقيق طلبه، وتتحمل وحدك المسؤولية.
اقتنيت كتابا بعنوان: «250 طريقة لتقولها وتعنيها: كيف تقول «لا»، توقف عن محاولة إرضاء الآخرين للأبد»، لمؤلفته الدكتورة سوزان نيومان، وأجد أن كل مؤتمن على مسؤولية يحتاج إلى قراءة هذا الكتاب، ليس من باب صرف الناس وأصحاب الحاجات، وإنما من أجل أن تلتزم حدود ونطاق صلاحياتك عندما تقول «نعم»، وأن تعرف أن قول كلمة «لا» لها القيمة الإيجابية ذاتها عندما تستخدم في وقتها.
تقول الكاتبة في تقديمها لمصنفها: «إن هذا الكتاب لا يبرر موقف الإنسان الأناني الذي يريد كل شيء لنفسه، بل إنه يخاطب الكثيرين منا الذين لا يكفون عن قول نعم في مواقف لا تتطلب الإذعان». وتضيف «إن الإنسان الموافق دائما يصبح غير ذي قيمة، ويشعر بالمهانة، ويتورط في المشاكل بسهولة، ويستغله الآخرون، ونتيجة لذلك لا تجده سعيدا، ويكون ناقما على نفسه لأنه أصبح شخصاً مطواعاً». وهذا بكل تأكيد ليس تشجيعاً على قول «لا» في كل المواقف، فالإفراط في استخدام «لا» تعنتاً وحسداً وكراهةً في خدمة الآخرين تنقل الشخص من حالة المطاوعة إلى حالة التعنت، والصد.
ثقافتنا مشبعة بالتفاؤل والإيجابية والفزعة والنخوة، وديننا يحثنا على أن نكون مفاتيح للخير، ومغاليق للشر؛ ولكن نعم، وأبشر، وحاضر ليست في كل الأحوال مفاتيح للخير، فقد تكون سببا في شقاء من حاولت إسعاده بسماعها. إذا كنت تستطيع قول هذه الكلمات وتقدر على تنفذها فهذا شأنك، وإن غير ذلك فإن كلمة «لا» قد تكون أيضاً مفتاحاً للخير. كم من شخص «دوخناه» السبع دوخات بكلمة أبشر، ونحن لا نعنيها، أو لا نملك تنفيذها؛ فتعلّق بمرادها شهوراً وربما سنوات ينتظر تحقيقها، ولو تجرأنا وقلنا له «لا» منذ البدء لوجد بدائل في وقتها.
استخدام «لا»، دون أن الاضطرار إلى سرد الأسباب، هو ممارسة للحرية في قول ما تعتقده بعيداً عن ضغوط الآخرين الذين يستخدمونك لتحقيق مصالحهم على حسابك. ومن يستخدم «لا» في التوقيت الصيح ليس أنانياً، فالأنانيون هم الذين يضغطون لتحقيق مصالحهم ولو أدى بك تحقيقها إلى السجن أو المستشفى.
إن استهلاك كلمة «نعم» في كل شيء يفقدها مصداقيتها، ولكي يكون لها موثوقية ووقع خاص على سامعها، يجب أن تصدر من شخص يستطيع استخدام «لا» بنفس القدر الذي يستخدم به «نعم»، فبضدها تتميز الأشياء؛ بدون ذلك سوف تكون الوعود بلا قيمة، وإنما تمنح الغرباء فرصة لمواصلة الضغوط واستلاب الإرادة وامتهان الطيبين. إن إطلاق كلمة «لا» بصوت مرتفع يمنح مجالا للحركة، ويفرض سياجاً يحمي الحرية والقرار والمصالح، ويمنع الآخرين من التمادي في مصادرة حقك في الدفاع عن نفسك ومحيطك المستباح. إن «أحد مفاتيح العلاقات الناجحة هو تعلم أن تقول «لا» دون الشعور بالذنب، بحيث يمكنك أن تقول نعم دون استياء».
إن قول «لا» لا يسلب الإنسانية والرحمة والتعاطف، ولا يغلق أبواب الخير، بل يحافظ على الخيرية ونفع الناس عندما تقال «نعم» ويطبق مرادها، وعندما تقال «لا» والقصد عدم القدرة على تنفيذ الطلب، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها. قول «نعم» في مجال العمل لا يجب أن يقترن بمخالفة الأنظمة؛ فيمنح مزايا لمن لا يستحقها، واستخدام «لا» يجب ألا يحرم إنسانا مما قرره له النظام.