عبدالرحمن الحبيب
«الاتحاد الأوروبي هو اتحاد للديمقراطيات المنظمة وطنياً التي تعتمد على قوة خارجية للأمن الخارجي ولإضفاء الشرعية على نفسها جزئياً لفكرة أن الدولة القومية عفا عليها الزمن. هذه التبعية الخارجية وقابلية التغيير الداخلية تجعل كلاً من الاتحاد الأوروبي نفسه والدول الأعضاء المكونة له مفتوحة باتساع على الاضطرابات الناجمة عن التغيير الجيوسياسي... الاتحاد الأوروبي يجمع السيادة جزئيًا ولأنه لا يستطيع تنظيم جيش جماعي، واعتمد على الولايات المتحدة، ترك نفسه معرضًا للتهديدات الخارجية، التي أثرت على بعض الأعضاء أكثر من غيرهم».
هذا ما تقوله البروفيسورة بجامعة كامبريدج هيلين طومسون مؤلفة كتاب «اضطراب: الأوقات الصعبة في القرن الحادي والعشرين» (Disorder: Hard Times in the 21st Century)، التي توضح أن القرن الحالي مثَّل حالة مزعجة لدول شمال الأطلسي: أزمات مالية، تراجع التصنيع، تزايد البطالة وعدم المساواة وتقويض الاستقرار الاجتماعي مما أدى إلى تنامي الشعبوية.. كل ذلك قبل جائحة كورونا وقبل الحرب الروسية في أوكرانيا.. وتتساءل: هل كان بإمكان الغرب تجنب أياً من هذه الاضطرابات؟ أم أن دوله لم تكن قادرة وستظل عاجزة في مواجهة «الصدمات التي تحركها هيكليًا، والتي تعاقبت آثارها من مكان إلى آخر في المجالات الجيوسياسية والاقتصادية والمحلية»، كما تقول في كتابها الذي يحدد القوى الهيكلية المسببة للفوضى الجيوسياسية اليوم التي يساء فهمها وفقاً للمؤلفة..
يشرح الكتاب كيف جلب القرن الحالي مدًا قويًا من الصدمات الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية المتداخلة التي واجهتها المجتمعات الديمقراطية الغربية في هذا القرن.. أدت تداعياتها إلى قيام البنوك المركزية بتكوين أكثر من 25 تريليون دولار من الأموال الجديدة، وأوجدت عصرًا جديدًا من المنافسة الجيوسياسية، وزعزعت استقرار الشرق الأوسط، ومزقت الاتحاد الأوروبي، وكشفت خطوط الصدع السياسية القديمة..
يكشف الكتاب الأصول التاريخية للصدمات السياسية في العقد الماضي، ويوضح كيف أدت أزمة كورونا إلى تفكيك خطوط الصدع في الديمقراطيات الغربية، والعلاقة بين الولايات المتحدة والصين، وحلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، والتي كانت تتراكم منذ عقود. وترى المؤلفة أن الصدمات السياسية ستنشأ وأن الاضطراب سيستمر بسبب تقاطع خطوط الصدع الناتجة عن الدورة الجيوسياسية التي تعطلت ولم تنته بعد..
يسرد الكتاب ثلاثة قصص أو تواريخ: الجغرافيا السياسية؛ الاقتصاد العالمي؛ الديمقراطيات الغربية، ويشرح كيف حدثت التمزقات في سنوات الاضطراب السياسي التي سبقت وباء كورونا، وكيف أصبح الاضطراب السياسي في كلٍّ منها، في سنوات ما قبل الوباء قصة واحدة ضخمة.
القصة الأولى جيوسياسية تدور حول الطاقة، وتبدأ أوائل القرن العشرين وصعود الولايات المتحدة الغنية بالنفط ورأس المال كقوة جيوسياسية خلال الفترة التي بدأ فيها النفط يحل محل الفحم كقاعدة طاقة للقوة العسكرية.. وتسرد الصعوبات المتأصلة التي واجهتها الولايات المتحدة كقوة غير أوروبية ولا آسيوية صاعدة في أوائل القرن العشرين، وتتوج بالابتعاد الأمريكي عن الصين في عالم تكون فيه الولايات المتحدة قوة عسكرية متراجعة وفي نفس الوقت طاقة وقوة مالية متجددة.
القصة الثانية اقتصادية تبدأ في السبعينيات وتشرح كيف أدى صعود نظام اليورودولار وأزمات الطاقة في ذلك العقد إلى إعادة تشكيل العالم النقدي والاتحاد الأوروبي وتُظهر مقدار الاضطراب الذي نشأ عن المشكلات الناتجة عن طاقات الوقود الأحفوري، وتوضح سبب استمرار المآزق الطويلة الأمد لأشكال الطاقة في مكانها مع حدوث التحول للطاقة الخضراء، وكيف استجاب الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والصين لانهيار 2007 - 2008 لمنع الانهيار الاقتصادي مما أدى إلى سلسلة من المشاكل الاقتصادية والطاقة التي لا يمكن حلها الآن. وتسرد المؤلفة قصة الاتحاد النقدي في أوروبا، الذي ترجع أصوله إلى انهيار نظام بريتون وودز، والذي امتد خلال أزمة منطقة اليورو في عام 2010، وتقول إن أزمة منطقة اليورو ساهمت في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وزعزعة استقرار العلاقة بين أعضاء منطقة اليورو وبقية الاتحاد.
القصة الأخيرة توضح عدم الاستقرار الحالي في حاجة الديمقراطيات الغربية إلى الحفاظ على «موافقة الخاسرين» وإلى الإصلاح عندما تصبح الحالة غير متوازنة. كما يوضح سبب صعوبة هذا الإصلاح في ظل الظروف الجيوسياسية والاقتصادية الحالية.
تتحد هذه القصص الثلاثة معًا في قصة واحدة، لتُظهر مقدار الاضطراب الذي نشأ عن المشكلات الناتجة عن طاقات الوقود الأحفوري، وفي النهاية يشرح الكتاب لماذا، مع حدوث التحول الأخضر، ستستمر المآزق طويلة الأمد التي تشكلها الطاقة دائمًا.
يأتي الكتاب في وقت الحرب الروسية الأوكرانية لينال اهتماماً واسعاً بين المختصين، لأن هذه الحرب تعد مثالاً واضحاً على أطروحة الكتاب سواء باعتماد دول الاتحاد الأوروبي على روسيا في مجال الطاقة، أو اعتمادها على أمريكا في مجال الحماية.. فكما كتبت المؤلفة: «عندما أقر الكونجرس الأمريكي، أواخر 2019، عقوباته الجديدة على نورد ستريم 2 [الروسية]، هاجمها وزير المالية الألماني باعتباره تدخلاً جادًا ليس فقط في سيادة ألمانيا بل في سيادة أوروبا أيضًا».
الكتاب يسرد تاريخًا عالميًا ووصفًا للطبيعة المتشابكة للجغرافيا السياسية والطاقة (النفط والغاز) والاقتصاد والموارد المالية، وينتهي بأطروحة تنعكس على الأصول وهشاشة الدولة القومية الديمقراطية الحديثة، ليمثل حالة الاضطراب التي تميز الحياة السياسية للعالم في القرن الحادي والعشرين..