حمّاد بن حامد السالمي
* هل أنت رجل مدخنة..؟! تحت هذا العنوان؛ كتب الأديب - فريق متقاعد- الأستاذ ( يحيى المعلمي) - رحمه الله- في صحيفة الرياض يوم 18 ذي القعدة 1406هـ وهو الذي كان يجمع بين الأدب والجندية- كتب يقول: ( سؤال غريب.. كيف لا يفرق السائل بين الرجل والمدخنة..؟ فكلاهما ينفث الدخان في الجو المحيط به، ويلوّث به الهواء، وينشر به الأسقام والأمراض.. بل إن المدخنة؛ أحسن حالًا فيما ترتفع سامقة في الهواء، ليبتعد دخانها عن الناس، وترسله في أجواء الفضاء، والمدخنة أحسن حالًا؛ لأن دخانها ناتج عن عمل مفيد للمجتمع في المخبز أو المصنع أو المنزل للتدفئة. أو حرق النفايات وتخليص المجتمع من أوضارها وأضرارها. أما الرجل الذي يجعل من نفسه مدخنة صغيرة متحركة؛ فإن دخانه المنفوث؛ إنما يخرج من جوف مريض، أثرت فيه كالسموم التي يمتصها المدخن من اللفافة أو الجوزة أو الغليون أو السيجار، أو غيرها من أدوات الدمار ووسائل إتلاف جسم الإنسان. والرجل المدخنة؛ لا يسيء إلى نفسه فحسب؛ إنما يسيء إلى جلسائه. بنفث السموم في وجوههم، وإجبارهم على استنشاقه، والرجل المدخنة؛ يسيء إلى أسرته إذا اتخذ قدوة لها. ويسيء إلى نفسه بالضرر لصحته، ويسيء إلى مجتمعه بإتلاف جزء من الدخل القومي وإحراقه، ونشر الأمراض الناجمة عن التدخين، واستهلاك في العلاج. إنه لمنظر مقزِّز؛ أن ترى شخصًا قد وضع اللفافة في فمه، وأصبح فكره موزعًا بين العمل الذي بين يديه؛ وبين اللفافة ومخلفاتها، من سقوطها بين شفتيه. وإنه لمنظر مقزِّز؛ أن ترى شخصًا يمسك عن الطعام والشراب طول يومه؛ فإذا جاء موعد الإفطار؛ بادر إلى اللفافة، فاستعملها قبل أن يذوق شيئًا. وإنه لمنظر مقزِّز حقًا؛ أن يقتحم عليك مجلسك شخص يحمل لفافة، أو يقوم لتوه فور دخوله باستعمالها غير عابئ بك. وكم أتمنى أن تكون لدى كل شخص من المدخنين؛ قوة شخصية، فيقلع عن هذه العادة السيئة، وإذا كان الشخص مصرًا على ممارسة هذه العادة السيئة؛ فعليه أن يمارسها سرًا، وأن يستر نفسه عن الناس عند ممارسته لها، وأن يتوارى خجلًا وحياءً، وأن يعفي الناس من شر دخانه ونفثاته، إذ عافاهم الله من الانغماس في سيئ أعمال المدخن وعاداته).
* كنت ألتقي المرحوم المعلمي في الطائف؛ وكان رأيه هذا يجاهر به في المجالس التي يغشاها مدخنون. وقد قرأت مقاله هذا في يوم نشره قبل سبعة وثلاثين عامًا، وظل عالقًا بالذاكرة، حتى وجدته منشورًا قبل أيام في كتاب: (نوادر من التاريخ) لصالح بن محمد الزمام. وسرعان ما ربطت بين مضمونه وبين تجربة شخصية خضتها بفضل عزلة كورونا، فتحقق لي ما كنت أتمناه وأسعى إليه منذ ثلاثين سنة فارطة. وإليكم القصة بإيجاز: لقد عافاني الله عزَّ وجلَّ من الدخان والشيشة طيلة عمري، ونحن بحمد الله ثمانية إخوان من أب يدخن الغليون - رحمه الله- لا نعرف هذه العادة، مع أن والدي جرَّب ونحن في الصغر - وكان يدخن الدخان الأخضر في الغليون- جرَّب التوقف عنه، فما هي إلا أيام؛ حتى فقد بصره وعمي تمامًا، وبعد عدة أشهر، أجبره صديق له زاره بعد طول غياب؛ أن يعود إلى دخانه الأخضر وغليونه، فعاد مكرهًا أمامه وتحت إلحاحه، فما هي إلا دقائق؛ حتى عاد إليه بصره، فظل يدخن الدخان الأخضر بالغليون حتى وفاته -رحمه الله-. وعرفت فيما بعد من أطباء متخصصين؛ أن فقد والدي لبصره؛ كان بسبب إدمان الدخان الذي أثَّر على حاسة النظر من بين الحواس الخمس التي تتأثر بالتدخين. نسأل الله السلامة والهداية.
* القصة باختصار؛ أني أصبت قبل ثلاثين عامًا بحساسية شديدة مزدوجة في الجيوب الأنفية والصدر، فما تركت عيادةً ولا طبيبًا أو علاجًا إلا وجربته، ثم ثبتُّ بوصفة أكثر من طبيب؛ على خمسة علاجات مسكنة، بين حبوب وبخاخات، آخذها صباحاً ومساءً لا أتوقف عنها طيلة هذه السنوات، حتى حل وباء كورونا، وجاءت العزلة، وجاء الفرج، فابتعدت بطبيعة الحال عن مجالس لا تخلو من مدخنين ومشيشين، وشعرت بتحسن كبير تدريجي، لكني بعد قراءات ومتابعات؛ أحببت أن أجرب الابتعاد أيضًا عن بعض المشروبات والمأكولات لعل وعسى، ابتعدت عن شرب الحليب، وأكل البيض والدجاج والجبنيات، وكذلك الفلفل الحار والبرتقال، ثم وجدت أن كثيرًا من العلة؛ يأتي من النعناع وما في حكمه بكل أنواعه. أوقفت كل ذلك، وقلّلت من الحوارق والحواذق بالجملة، فتحسنت تدريجيًا، ثم ها أنا وبعد قرابة عام وتسعة أشهر؛ أوقفت خلالها كافة العلاجات والأدوية التي كنت آخذها يوميًا للحساسية، واختفت الحساسية تمامًا، إلا إذا تعرضت صدفة لدخان مدخن، أو دخان شيشة، أو مدخنة عود، أو دخان حطب، أو عطور قوية ونحو ذلك.
* هذه تجربة شخصية قد لا تعني الكثيرين، وقد يستفيد منها من هم في مثل حالتي، لكن الثابت بعد كل الذي نعرفه عن الدخان والشيشة بشكل خاص؛ أنهما أشد ضررًا على صحة الإنسان المدخن، والمدخن السلبي على ما يبدو أكثر الاثنين تضررًا من هذه العادة السيئة، وإذا أضفنا إلى هذا بعض العادات السيئة التي نمارسها في مآكلنا ومشاربنا ومساكننا؛ فالأمر خطير جلل، ويجب علينا؛ المبادرة إلى الابتعاد عن كل ضار مضر بالصحة العامة، وأن نتذكر أن ملايين البشر؛ يموتون سنويًا بسبب التبغ وحده، فما بالك لو أضفنا إليهم ضحايا جراك الشيشة ودخان عود المدخنة..!
* لقد أكثر الأدباء والشعراء قديمًا وحديثًا من ذكر أضرار التدخين بأنواعه، وحذروا من هذه العادة السيئة، التي تجعل منها الأفلام العربية؛ لازمة لأبطال وبطلات أفلامها، فلا يظهر الممثل؛ إلا وهو يمز سيجارة أو غليونًا، لهذا لا يخلو مجلس من مجالسنا عامة وخاصة؛ من مدخنين للتبغ أو الجراك، هم في حقيقتهم (مداخن ضارة). ما أصدق ما قال هذا الشاعر:
افتح السمع وأمعن بالنظر
تترك التدخين في لمح البصر
إنه يا صاح خلٌّ خائن
يأخذ الأموال يعطيَنَّ الضرر
يحبس الأنفاس عن أصحابه
ولخبث فيه؛ يؤذي من حضر