لماذا يختار الموت الجمال ليغيِّبه ويذهب به بعيدًا عنا؟ ولماذا يبحث بيننا عن كل ما نرى فيه الخير والبناء والتدبير والقيادة الناجحة؟ وهل يحب الموت بدوره ما نحب؟ وهل حقيقة هو ظالم كما يقال عنه؟ وهل بالفعل لا يهتم لمشاعرنا فيخطف منا الأصفياء والرائعين والمتميزين ويترك بيننا من يعيث فينا فسادًا ويدمر أخلاقنا وقيمنا وينهب ثقافتنا باسم عناوين غبية؟ لا نريد هنا أن نكون ضد القضاء والقدر، بقدر ما نتساءل كيف للموت أن يختار عزيزة هكذا وفي غفلة منا ومنها ويقودها إلى عالم آخر لا نعرف عنه شيئًا؟. نتساءل حقيقة وبحرقة عن هذه المفاجأة والتي تركت أثرًا بليغًا في نفوسنا وحسرة في قلوبنا التي تحسرت على عدم الوفاء بالعديد من الأشياء التي كنا نرغب فيها رفقة عزيزة؛ وعلى عدم فعل الكثير من الأمور التي كنا نعتزم فعلها والقيام بها وفاء لصداقتها وحبها. لا رادَّ لقضاء الله وقدره؛ لكن من حقنا أن نخاف هذا الموت الذي يفرح بحصادنا وحصاد من نحب؛ وأن نرتعد ونخشى منه لأنه يفرح كثيرًا كلما أُمر أن يرحِّل شخصًا عزيزًا علينا.
جالس بمكتبي الإداري، منشغل بالعديد من الأمور الإدارية التي تخص التلاميذ والأساتذة وأمور أخرى تدخل في هذا الإطار؛ منهمك حتى الضجر بهذه الأمور الروتينية القاتلة للإبداع والتفكير السليم في الأشياء والعالم، السكون كان سيد الموقف إلا من بعض التشويشات التي كان يأتي بها التلاميذ في ساحة المؤسسة بين الفينة والأخرى؛ يرنّ الهاتف فجأة، فإذا بالأديبة والصديقة المناضلة أمينة سبيل تظهر على شاشته. أجبتُ بسرعة، ودون مقدمات قالت أمينة باكية ناحبة: لقد ماتتْ، ماتتْ عزيزة، ماتتْ أخي عزيز... لم أجدْ كلمة أقولها من هول الخبر؛ بل كان صمتي لمدة من الزمن كافيًا لاسترجاع نفسي وذاتي وتفكيري الذي غاب عني بعد سماع الخبر الصاعقة، لم أجدْ إلا دموعي وكلمات تقال عند سماع خبر عن الموت لأننا لا نملك أي شيء تجاهه أو أمرًا يمنعه من قدومه؛ قلت لأمينة: عزاؤنا واحد في عزيزة أختي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لقد لعب الموت لعبته وانتصر فيها على عزيزة وعلينا جميعًا؛ بل لقد فاجأنا في غفلة منا ونحن منهمكون في تفاصيل الحياة وتكاليفها دون تفكير فيه، رغم سماعنا بأخباره اليومية التي يحصد فيها الأرواح بفعل مرض غامض اسمه كوفيد 19. لقد فرض علينا روتينيته، وجعلنا نطبِّع معه ومع أخباره كأنها مجرد أخبار اعتيادية سئمنا سماعها يوميًا، حتى فاجأنا بحصد روح عزيزة، فأعادنا إلى التفكير مليًّا فيه وفي عوالمه وقدرته العجيبة على المفاجأة وعلى فعل وسرعته دون شعور منا، تلك الروح لم تكنْ تستحق أن تغادرنا وأن تبقى منطلقة بيننا مفعمة بالحرية والإبداع والتفكير المثمر والتعبير الجميل، تلك الروح التي كانت تعيش سلامًا داخليًا منقطع النظير، تلك الروح التي كانت ترسل إلينا جميعًا نوعًا من السعادة والفرح والشعور بقيمة الحياة وجمالها؛ لكن هيهات، غابت عنا وتركت كل هاته الأشياء بلا حارس أو رقيب جميل عليها.
أن تكتب عن شخصية من قيمة الشاعرة والمثقفة رئيسة رابطة كاتبات المغرب المرحومة عزيزة يحضيه عمر، ليس بالأمر السهل ولا الهين؛ فقد كانت قيد حياتها إنسانة ومبدعة أخلصت للإنسان والثقافة والوطن فصارت أيقونة في ذلك، ومثالًا يُحتذى. ففي كل قراراتها كان يحضر الوطن، وفي كل كلماتها الرسمية وغير الرسمية كان يأتي ذكر الوطن في أرقى صفاته وعظمته وحضارته، لأنها كانت تعرف معنى الانتماء إليه، ودلالة الإيمان به وبأهمية حبه والتعلق به. حقيقة كانت وطنيتها مدرسة وفكرة وفلسفة حياتية طبعت كل حياتها، وخاصة بعد تأسيسها لرابطة كاتبات المغرب رفقة العديد من المبدعات والمثقفات المغربيات المتميزات وذائعات الصيت وطنيًا وعربيًا وعالميًا.
أن تكتب عن شخصية مثل عزيزة يحضيه عمر، ينبغي عليك أن تتوقف عند أهم محطات حياتها بالتفصيل، لأنها محطات مثيرة للجدل، تركت أثرًا على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي؛ خاصة وأنها تنتسب إلى منطقة هي عزيزة على كل مغربي ومغربية، وهي الصحراء المغربية؛ منطقة أثارت الكثير من النقاشات والصراعات ومازالت تفعل؛ منطقة تمثل بالنسبة للجميع مسألة حياة أو موت، والحفاظ عليها وعلى ارتباطها السياسي والجغرافي قضية لا يمكن التجادل فيها أو التحاول حولها أو حتى التفاوض مع أي كان ومع أي طرف كان. وما تبقى من قضايا أخرى في هذا الشأن يمكن مناقشته بأريحية، وهذا ما كنت تؤمن به الشاعرة الصحراوية المبدعة التي كتبت شعرًا يعبر عن هذا الانتماء الجغرافي بالدرجة الأولى، ثم عن الانتماء إلى الوطن المترامي الأطراف، تقول في قصيدة «هذه الصحراء لي»:
أنا الصحراء... وهذه الصحراء لي
نغمة ودمعة وقدح من اللبن
على خطاهم علق عابر سبيل
المتمردون متمردون
والبقا يا تائهون بين الصفافة وأشجار الطلح
متعبة مسالك المارين من هنا
أنا الصحراء... والصحراء لي
لوحة مزركشة كمعاطف الرحل
في الصباح لباس وفي الليل غطاء
نرجسية أنا فيك
ونرجسية أنت فيّ
نتبادل التهم كزوار الليل لمخافر الشرطة
مرة الامتداد وهنيهة الامتلاك
يا جمال الكون المرصع والمختزل في خيمتي
أنا البادية وأنت المبتدأ
وكلانا الخبر
في قصاصة أخبار تاه الآخرون
العابرون من مسالك الغيم
اعتليت عرش مملكتي
هذه الصحراء أنا... والصحراء لي.
جميلة هي القصيدة الشعرية عندما تعبر عن الحب والعشق الراقي للأرض والوطن والجغرافيا؛ جميلة هي القصيدة عندما تعلن عن مشاعر صافية حقيقية لا يملؤها النفاق ولا الكذب تجاه الأشياء والأرض. الشاعرة عزيزة يحضيه عمر كانت تمارس هذا الحب بشكل طفولي، وكانت عاشقة للأرض والوطن بنفَس كبير يستحيل عند الكثيرين؛ وخاصة أولئك الذين يربطون كل شيء أو شعور بما قد يجنونه منه. كانت تحب بدون مقابل، وتعشق بدون أن تتلقى التصفيق أو التكريم من أحد؛ ولذلك نقول عنها إنها مدرسة في حب الوطن وعشق أرضه وثوابته.
حملت عزيزة يحضيه عمر على عاتقها بعدًا إنسانيًا في كتاباتها الفكرية وفي شعرها الجميل، كخلاصة لوعيها الوطني ولشعورها بإنسانيتها وقيمها المغربية الأصيلة المرتبطة أساسًا بكل ما هو وطني وإنساني وكوني. كل هذا كان وراء تكوين شخصيتها الأثيرة والقوية والقيادية في رابطة كاتبات المغرب التي تمكنت في مدة وجيزة جمع نساء المغرب داخله وخارجه في مؤسسة واحدة رغم اختلاف الأفكار والإيديولوجيات والتوجهات والمواقف فيما بينهن. وتحضرني هنا تلك الأيام التي كان لي شرف حضورها ومتابعتها في المؤتمر الوطني الخاص بالرابطة الذي نظم بمدينة المحمدية، والذي استطاعت بحنكتها وتجربتها في القيادة والتدبير والتسيير، رحمها الله، أن تصل إلى أهداف المؤتمر وتنجح في عقده نجاحًا كبيرًا. فهي القائلة شعرًا:
شيء من الحلوى
والقليل من السكر
أخشى على الكلمات من الفحوى
والخروج عن الشعر
وتورطني في قول ما لم يُقَلْ قبلي
وأنتزع مسافات في العدو
ربما نحو الأفق
وربما نحو القبو.
لم تكنْ شاعرة عادية، لأنها كانت تلتقط الإشارات والصور المثيرة للجدل، لتعبر عنها بأسلوبها الخاص؛ فهي المتشبعة بالموروث الثقافي الصحراوي والمغربي من أجل التعريف بكل ما هو مغربي من خلال رؤية ثقافية إبداعية لحقيقة الذات والوطن والإنسان. كل هذا جعلنا نؤمن بنضاليتها الثقافية والسياسية والإنسانية بإيثار منقطع النظير؛ حيث وظفت العديد من المكونات الثقافية المستمدة من الذاكرة الفردية والجماعية ومن المخزون الثقافي الشعبي المغربي بكل تنويعاته.
ويلتقي عشق الوطن مع الشعر عندها في الكثير من قصائدها الجميلة التي كتبتها بنفَس بطولي وقوي موجهة أسئلتها المتعددة والمحيرة إلى العديد من الأبواق المنافقة هنا وهناك وإلى كل المغررين بهم خارج الوطن، حيث تدعو الجميع إلى إعمال العقل واستحضار المصلحة الجماعية على المصلحة الشخصية المرتبطة بقيمة المال الذي تتحصل عليه؛ تقول في هذا الشأن:
يأخذني المدى إلى المدى
بين الرمش واللظى
الصحراء عبق الخزامى والثرى
تلتحف القصيد والربى
تنقش على الهوى
عشق الوطن وتهدي العرايا؛
العرايا هنا تعنى الثمار.
أبدعت عزيزة يحضيه عمر الشعر من أجل أن تقف على رمزية المرأة في المجتمع، وقدرتها على الإبداع والكتابة بأسلوب مثير للجدل، وعلى حقها في المساهمة في البناء المجتمعي وتشكيل وعي ثقافي مجتمعي يترك كل ما هو سلبي وإيديولوجي وتقزيمي لدور المرأة المغربية وحصرها في شؤون البيت وخدمة ذكور القبيلة. بجرأتها العالية وتطوعها المجاني للدفاع عن المرأة وعن الثقافة المغربية الأصيلة وعن تراث الوطن الضارب في أعماق التاريخ سواء كان ذلك من خلال الكتابة الشعرية والأدبية أم كان من خلال تزعم أشكال مختلفة من النضال السياسي والثقافي لمواجهة كل أشكال الإقصاء الممنهج ضد كل ما هو نسوي.
لقد تصدت لكل تغييب قسري للمرأة المغربية من حقل الإنتاج الثقافي الرمزي وإبقائه حكرًا على الرجل من أجل إبقاء جسد المرأة صامتًا وعقلها منكفئًا على كل ما هو مقزّم وداخلي لا يخرج إلى أفق المجتمع الرحب، وترسيخ الأثر النسوي والتميز الأدبي الذي نحن في أحوج إليه مجتمعيًّا. ولذلك ناضلت عزيزة من أجل الرباطة ومن أجل نسائها على جميع المستويات، ورفعت صوتها عاليًا في كل المحافل والمنتديات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية المفروض فيها احتضان الصوت النسائي المغربي والدفع نحو إنصاف المرأة المغربية.
لقد أحسنتْ عزيزة يحضيه عمر في الدفاع عن نفسها وعن رابطتها، بل عن كل النساء، وأحسنت في الدفاع عن أفكارها واستمرت في ذلك حتى فاقت الرجل المثقف في ذلك؛ وأصبحت جزءًا من الرأي العام المغربي، تثير القضايا السياسية والثقافية بكل جرأة وتفرض نفسها على وسائل الإع لام العمومية والخصوصية، ولم تركنْ إلى الصمت أو الخلف لترك الفرصة لذكور المجتمع أن يضعوا العراقيل أمامها. لقد استطاعت أن تسحب البساط من تحت العديد منهم بفضل ذكائها وبفضل مساندة نساء أخريات يقتسمن معها الهموم نفسها والانشغالات ذاتها.
ستبقى عزيزة يحضيه عمر المرأة المثقفة والمبدعة والقيادية التي تنضاف إلى العديد من نسائنا المغربيات الرائدات في أكثر من مجال، واللواتي استطعن أن يصلن إلى مرتبات مشرفة في القيادة والتسيير والإبداع والنضال السياسي والثقافي والاجتماعي؛ رحم الله الفقيدة وأسكنها فسيح جناته.
** **
- عزيز العرباوي