الثقافية - كمال الداية:
تستضيف الثقافية في هذا العدد شخصية استثنائية، متعددة المواهب، وكنا نريد أن نذكر الألقاب التي تسبق اسمه إلا أنه أبى أن نذكر اسمه مجردًا من أي لقب! فها هو «حمزة بن قبلان المزيني»، أستاذ اللسانيات، ورائد الترجمة الأدبية، الذي ابتدأت رحلته العلمية والثقافية والفكرية من الولايات المتحدة الأمريكية عندما ابتعثته جامعة الملك سعود لإكمال الدراسات العليا في حقل اللسانيات، فعاد حاملاً شهادة الدكتوراه من هناك، ليتقاعد من الجامعة وهو على رتبة أستاذ، أثرى المكتبة العربية بالعديد من الكتب، وكانت وما تزال إسهاماته في مجال الفكر والثقافة خير شاهدٍ على ما تتمتع به هذه العقلية الفذة من رؤى وأطروحات ثرية في المجالات الثقافية والفكرية، تستضيف «الثقافية» اليوم هذا العلم للحديث عن موضوعات عدة، أجاب عنها أ.د.حمزة المزيني، بكل صراحة ووضوح، فإلى نص الحوار..
س: حصدتم مؤخرًا جائزة غازي القصيبي فرع الأدب، وذلك عن كتابكم: «واستقرت بها النوى»، في رأيك ما الذي يميز سيرتكم عن غيرها من السير الذاتية، وخصوصًا أنها نالت التكريم بالجائزة؟
ج - علَّق الصديق القاص المبدع الدكتور محمد علوان، في رسالة هنأني فيها بفوز الكتاب بعد إعلان أسماء الفائزين بجائزة الدكتور القصيبي، على كلمة «يَحصُد» التي وردت في عنوان ذلك الإعلان، بقوله إن هذه الكلمة «تذكِّر بالموت»! فقلت له: ربما يكون سبب ذلك أن من كَتب الإعلان يَعرف أني ابن فلاح، لذلك استخدم هذه الكلمة!
أما السؤال عمَّا «تتمير به» هذه السيرة، فجوابه لا يليق صدوره عني. وهو حكم لا يليق صدوره عن أيِّ مؤلف عن أي كتاب له. وهو حكم يصدره القارئ فقط. مهمة الكاتب أن يبذل الجهد لتجويد ما يكتب ويترك الحكم عليه للآخرين. والقراء دائمًا منصفون لا يغمطون كتابًا حقَّه. يقول المثَل البدوي: «افْعَلْ والناس تَكْفيك الخَبَر»!
س: هل ترتبط السيرة الذاتية بعمر معين حيث يرى الكاتب فيه أنه العمر المثالي للكتابة والتدوين؟ أم أن المسألة ترتبط بالإنتاج والإنجاز؟
ج - لا أعرف جوابًا على هذا السؤال حقيقةً؛ وأستطيع أن أتحدث عن تجربتي فقط. فأنا لم أفكر يومًا بكتابة سيرتي الذاتية، لكني وجدت نفسي أكتبها فجأة في سني هذا! والمؤكد أنه كان لحث بعض الأعزاء لي على كتابتها دور في ذلك.
س: أثناء كتابة سيرتكم هل تجاهلتم الحديث عن إحدى مراحل حياتكم؟
ج - لا يمكن أن يكتب أحد عن مراحل حياته «كلها». وهذا ينطبق علي أيضًا. ولا أظن أني «تجاهلتُ»، عن قصد، الكتابةَ عن أي محطة من محطات حياتي. ربما تركت الكتابة عن بعض المحطات لأسباب رأيتُها في حينه، أو لأني نسيتُها!
س: في نظركم ما هي شروط السيرة الذاتية الناجحة؟
ج - كما ألمحتُ في إجاباتي السابقة، فأنا لم أفكِّر بكتابة سيرتي الذاتية ولم أخطط لذلك. يضاف إلى ذلك أني لم أكن ملمًّا بما يكتبه نقاد السيرة الذاتية من شروط يجب توفُّرها فيها، ليس ذلك لعدم أهميتها بل لأني قارئ وحسب للسيرة الذاتية ولست متخصصًا فيها، ولمّا بدأتُ كتابة سيرتي لم أراجع ما يقوله النقاد عن تلك الشروط.
من ناحية ثانية، أظن أن معرفة تلك الشروط لا تضمن بشكل لازم تحققَ سيرة ذاتية جيدة. وينطبق هذا على البحوث العلمية كذلك. وكثيرًا ما يتحدث اللساني الأمريكي المشهور نعوم تشومسكي عن الفوارق بين العلوم الصحيحة كالفيزياء والكيمياء وبين العلوم الإنسانية. فيرى أن كثيرًا من العلوم الإنسانية تهتم بشكليات ما يسمى «المنهج العلمي» لكنها لا تُنتج شيئًا ذا أهمية علمية. وذلك بعكس العلوم الصحيحة التي تنشأ معرفة الباحث بها من القراءة الجادة للبحوث السابقة، وبذل الجهد في البحث، وأن يفتح الباحث ذهنه لاحتمال وجود بدائل أكثر نجاعة مما يتوصل إليه من نتائج. وكذلك الأمر في كتابة السيرة الذاتية، فيما أزعم. فهي لا تتطلب تقيدًا بشروط معيَّنة يحددها نقاد توصلوا إليها من قراءاتهم لبعض السير الذاتية ثم يرون أنها الشروط التي يجب أن تتوفر في كل سيرة ذاتية. وما أظنه أن السيرة الذاتية تحكي تجربة شخصية لكاتبها وهي تجربة لا بد أن تكون مختلفة عن أي تجارب أخرى مما يجعلها لزومًا مختلفة عن غيرها من السير الذاتية التي يكتبها آخرون.
س: في سيرتكم «واستقرت بها النوى» خرجتم عن الأطر التي سنها (فيليب لوجون)، أم أن لكم رأيًا آخر في ذلك؟
ج - امتدادًا لجوابي السابق أقول بكل أمانة إني لم يسبق لي قراءة أي شيء كتبه «فيليب لوجون» المحترم. ودعاني هذا السؤال إلى الرجوع إلى كتاب الزميل الصديق الدكتور صالح الغامدي بعنوان «كتابة الذات» فوجدت فيه (ص ??) شيئًا قاله «فيليب لوجون» تعريفًا للسيرة الذاتية، وهو أن «تعريف [لوجون الذي] صاغه لفن السير الذاتية الغريبة [الغربية؟]» هو أنها «قصة استعادية نثرية يروي فيها شخص حقيقي [قصة] وجوده الخاص مركزاً على حياته الفردية وعلى تكوين شخصيته بالخصوص»».
ويكاد يَكون هذا التعريف، كما ترى، تفسيرًا للماء بالماء، وهو يؤكد ما قلتُه من أنه إن كان ثَمَّ شروط للسيرة الذاتية فهي من قبيل البداءة!
س: تشهد كتابة السيرة الذاتية الآن وهجًا مستمرًا، فما هو سبب ذلك في رأيكم؟ وهل يمكن أن يطغى ذلك على الرواية والقصة؟
ج - هذا صحيح؛ فقد نُشر في خلال السنوات القليلة الماضية عدد كبير من «السير الذاتية» السعودية، وهذا شيء جيد ومفرِح ومرحَّب ب ه وإن كنت لا أعرف له سببًا. لكنه دليل حيوية ثقافية ممتازة في بلادنا.
س: ما ذكرتموه في كتابكم «الأهلة شهود المستحيل»، بدأ يتحقق حيث شهدنا مؤخرًا ظهور بعض أرباب الفلك يتحدثون عن أخطاء في رؤيةالهلال، فما تعليقكم على ذلك؟
ج - هذه مسألة طويلة أدخلنا في دوامتها خلال الأربعين سنة الماضية مجموعة من «الواهمين» الذين كانوا قبل ثماني سنوات يشهدون برؤية الهلال قبل ثلاث ساعات من الاقتران! أما الآن فقد حرمتْهم المحكمة العليا الموقرة من ذلك المجد الزائف فصاروا لا يشهدون برؤية هلال غير موجود، بل يتحرون غروب الشمس ويشهدون بأهلة لم يرها أحد في أقطار أرض الله الواسعة، ولا يمكن لأحد أن يراها حتى بأدق المناظير الفلكية! والأغرب من ذلك أنهم صاروا خبراء في علم الفلك وصاروا يحددون متى يوجد الهلال فوق الأفق، ويعملون بالحساب الفلكي الذي كانوا يشنِّعون عليه وعلى من يرى استخدامه في إثبات الأهلة ويعدون ذلك مخالفة صريحة لسنة الترائي. فقد صاروا الآن «يلعبون على الحبلين»، كما يقال!
س: سبق أن تحدثتم عن اختطاف التعليم.. هل مازال التعليم مختطفًا؟
ج - لم أتابع قضايا التعليم منذ سنوات عدة. لكن هناك الآن بعض المظاهر لتطوير التعليم يمكن ملاحظتها.
س: كيف تقيم تجربتك في الكتابة الصحفية؟
ج - أولاً، أنا لست «كاتبًا صحفيًّا»! بل «أكاديمي» أساسًا، إن صح التعبير، كنت أحاول أن أكتب عن بعض القضايا التي كان يبدو لي أني أعرف عنها شيئًا ولديَّ ما يمكن أن أسهم به في تناولها.
س: اذكر لنا موقفًا ترك أثرًا في حياتك؟
ج - كلُّ ما مر بي في حياتي ترك أثرًا فيها.
س: ما هو أقرب الألقاب إلى نفسك؟
ج - أنا أحب المناداة بين الناس باستخدام أسمائهم الأولى بعيدًا عن «فخفخة» الألقاب، وأحب أن ينادوني باسم الأول كذلك.
س: شهد المجتمع مؤخرًا تحولات ثقافية وفكرية مؤثرة كيف تقيمون هذه التحولات؟ وما مدى أثرها على سلوك أفراد المجتمع؟
ج - هذا سؤال يصلح أن يكون موضوعًا لرسالة دكتوراه!
س: كيف ينظر د.حمزة المزيني إلى مستقبل الأدب السعودي؟
ج - أنا لست متخصصًا في الأدب عمومًا، والأدب السعودي خاصة. لكني قارئ مغرم بالأدب بأنواعه. ولا يمكن لي بصفتي غير متخصص أن أدعي ما لا أعرفه.
س: ما رأيك في استخدام بعض اللغات العالمية كالإنجليزية لتكون لغة للحديث بين العرب؟ أو لغة لتدريس الطلاب كما هو في التخصصات العلمية في الجامعات؟
ج - والجواب عن الشق الأول من السؤال أن هذا لن يحدث مطلقًا إلا إذا غيَّر العرب «مورِّثاتهم» فاستعجموا! وربما يكون تعليم بعض التخصصات العلمية مفهومًا لا سيما في العلوم التي لم يعمل العرب بعدُ على ترقية اللغة العربية إلى مستوى تناولها بدقة.
المشكل ليس هنا، بل في الذين يخلطون اللغة العربية بغيرها حين يتكلمون ـ سواء بالفصحى أم بلهجاتهم ـ في غير ما حاجة. ومما يؤثر عن الصديق الزميل الدكتور مرزوق بن تنباك، في هذا السياق، قوله: «إذا رأيت رجلاً يَدخل دائرة حكومية وهو يلبس مشلحًا فالأحرى أنه يحاول أن يستولي على شيء لا حَقَّ له فيه!». ومجاراة لهذه الحكمة الرائعة أقول: «إذا رأيت أحدًا يخلط لغته العربية بالإنجليزية من غير داع فالأحرى أنه لا يَعرف الإنجليزية، بل «يتميلح، وحسب»»!
س: هل بيئتنا الأكاديمية صحية، وتشجع على الإنتاج؟ وما الذي ينقصها؟
ج - أنا خرجت من الجامعة منذ سنوات عدة ولا أستطيع الحكم عليها.
س: ما مدى ارتباطك بالتراث؟
ج - لم يَخترع العرب المعاصرون كلمة أفظع من مصطلح «التراث». وتكاد توحي هذه الكلمة بأننا نتعامل مع شيء ميت!
أنا أنظر إلى ما أنجزه المبدعون العرب القدماء في كل فن من فنون اللغة والأدب والتاريخ والفكر على أنه يمثل جذورنا التي نستقي منها استقرارنا واستمرارنا النفسيَّين. وأي أمة تنقطع عن جذورها إنما تَحكم على نفسها بالضآلة والتلاشي. صحيح أني لا أشتغل، بحكم التخصص، بقضايا اللغة والأدب والتاريخ التي أنجزها العرب القدماء لكني منغمس فيها إلى أبعد الحدود قارئا يستشعر عظمة تلك الأسس القوية التي تمثل رافعةً لذواتنا المعاصرة.
لا يمكن أن أنسى ذلك الفرح والشعور بالامتلاء النفسي والاعتزاز بتلك الإبداعات بعد أن رجعتُ من البعثة وأخذت على نفسي استرداد ذائقتي اللغوية والأدبية بعد سنوات من استخدام اللغة الإنجليزية. كيف أنسى تألُّق سيبويه وابن جني والجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن خلدون؟ كيف أنسى تألق الشعراء العرب منذ الجاهلية واستمرارًا إلى البحتري وأبي تمام والمعري وسيد الجميع، المتنبي؟
كيف أنسى تلك الشهور العديدة التي شعرت فيها بالزهو وأنا أقرأ معجم «لسان العرب» من صفحته الأولى إلى الصفحة الأخيرة، وأكتشف ذلك المخزون الذهبي من الأدب واللغة والجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجي؟
يغيب عن كثير منا أن الجامعات الأمريكية توجب على طلابها حتى في غير التخصصات الإنسانية قراءة ما يسمونه «الأُسُس» Canons (وربما أترجمها بـ»»الأمهات») التي تشتمل على الآثار الأدبية العظمى منذ اليونان حتى شعراء الإنجليزية وكتّابها في القرون الماضية القريبة.
لهذا كله، فأنا أنفر من مصطلح «التراث» الانتقاصي وأرى نفسي بالتماهي مع الثقافية العربية الغنية الممتدة منذ آلاف السنين، التي تقوم على «أُسس» لا تقل عظمة وحياة، بكل المقاييس، عن «أُسس» الأمم الأخرى، وهي مصدر فخر يجب ألا يُنتقَص بإطلاق مصطلحات مضلِّلة عليه تنال من عظَمته.