رؤية - خالد الدوس:
اهتم عددٌ كبيرٌ من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه. وقد أسهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية. ومن أهم العلماء والباحثين في علم الاجتماع العربي الأستاذ الدكتور الراحل عبد الجليل الطاهر - رحمه الله.
ولد هذا العالم الاجتماعي في العراق في مدينة القرنة بمحافظة البصرة عام 1917م وبعد انهائه مراحل التعليم العام انتقل إلى بغداد ليلتحق بمعهد المعلمين عام 1929 وتخرَّج منها وعيّن مدرساً عام 1946، ولم يستمر طويلاً، حيث قدَّم استقالته ليلتحق بالبعثة العلمية العراقية المتوجهة إلى فرنسا فدرس في جامعة السوربون، ثم واصل تعليمه العالي في الولايات المتحدة الأمريكية, حيث التحق للدراسة بجامعة شيكاغو المخضرمة فنال درجة الماجستير عام 1950 ثم تلا ذلك شهادة الدكتوراه وكان عنوان أطروحته (الجاليات العربية في الولايات المتحدة الأمريكية) عام 1952م,
وبعد عودته لوطنه.. أرض الحضارة العلمية عيِّن أستاذاً مساعداً بجامعة بغداد العريقة, فساهم مع الأب الروحي لعلم الاجتماع العراقي د. علي الوردي ود. حاتم الكعبي ود. أحمد العلي في نمو علم الاجتماع الحديث في العراق ووضعوا اللبنة الأولى لدراسة الظواهر الاجتماعية في الريف والمجتمع الحضري.
ويعد عالم الاجتماع الراحل عبد الجليل الطاهر -رحمه الله - الذي لقب «بالخيال السوسيولوجي العراقي».. ثاني متخصص أكاديمي بعد زميله العالم الراحل (علي الوردي), وقد أسهم بافتتاح أول قسم لعلم الاجتماع في العراق في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين. كانت بحوثه ودراساته الاجتماعية حول المشكلات الاجتماعية والتفسير العلمي للجريمة والمجتمع البدوي والعشائري في البلاد العربية وقدَّم العديد من المؤلفات مثل كتاب (التفسير الاجتماعي للجريمة) عام 1954م, وكتاب علم الاجتماع عام 1964م وكتاب الأيديولوجية والطوبائية عام 1968، وكتاب العشائر العراقية, وكتاب المشكلات الاجتماعية في حضارة متبدلة, وكتاب أصنام المجتمع, وغيرها من المؤلفات التي أثرت علم الاجتماع الحديث, كما ترك العديد من التراجم التي أسهمت في إثراء الفكر الاجتماعي والمعرفة الاجتماعية وبالتالي عكس المرحلة الأولى من مراحل تطور ونمو علم الاجتماع في العراق, وخصوصاً أن بداية عطاءته العلمية كانت تتمثَّل في دراسات الوحدات الاجتماعية الكبيرة كدراسة المجتمع البدوي والريفي والحضري, وفي آخر حياته العلمية وقبل وفاته انتقل إلى تقديم دراسات وحدات صغيرة المدى كدراسة الشخصية العرقية.
ونظراً لغزارة الإنتاج العلمي والفكري والنشاط البحثي, فضلاً عن هضمه للنظريات الاجتماعية والمناهج الاجتماعية حصل على رتبة الأستاذية عام 1958م ثم رشح رئيساً لقسم الاجتماع بجامعة بغداد، وفي الستينيات الميلادية انتقل للعمل في بعض الجامعات السعودية وبعض الجامعات العربية كما شغل العالم (د. الطاهر) مناصب استشارية ووظيفية وإدارية عدة، فقد عمل في المديرية العامة للبحوث في الهيئة الفنية الخامسة في وزارة الإعمار، وقد أجرى مجموعة من البحوث المهمة، مثل إحصائية عن القرى والقبائل، وبحثه الاجتماعي والاقتصادي عن قرية الوشاش، وبحث آخر عن الإدارة المحلية في العراق.
وفي العام 1958 طلبت وزارة الإعمار الاستعانة بخدماته من جديد بعد أن لمسا مدى النجاح الذي يرافق بحوثه ومدى الدقة في ملاحظاته والفوائد من نصائحه الاستشارية، إضافةً إلى مدى إخلاصه وتفانيه في العمل، وقد رافق هذا الطلب إلحاح مؤسسة دوكسيادس على الإفادة من خدماته وتجديد العقد معه خاصة ما تعلق منها بفعاليات الإسكان التي كانت تقوم بها في العراق، ولم يمنعه عمله هذا عن الاستمرار في التدريس والبحث الجامعيين فقد كان يومه مليئاً بالعمل حتى ساعات متأخرة من الليل.
في عام 1961 رُشح لإشغال وظيفة في المركز العام في منظمة اليونسكو وكان قد رُشح من قبل لإشغال وظيفة مساعد مدير قسم العلوم الاجتماعية في هذه المنظمة. وفي عام 1961 توقف الطاهر عن العمل في كلية الآداب ليمارس نشاطاً اجتماعيا آخر فقد شغل وظيفة مدير عام الخدمات الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية وقد قام بعمله هذا خير قيام.
في عام 1962 رُشح أيضا لإشغال عضوية المجلس الاستشاري لمكتب العمل الدولي في جنيف التابع لمنظمة العمل الدولي.
قدم العالم الراحل (الطاهر) مجموعة كبيرة من المؤلفات التي جاءت إما عن طريق دراسات ميدانية قام بها للمجتمع العراقي والعربي، أو عن طريق نقل المعرفة السوسيولوجية من البلدان الأوربية والأمريكية التي ظهرت فيها ورفد المكتبة العربية، خاصةً أن أقسام علم الاجتماع التي ظهرت في العراق ومصر وسورية ولبنان كان طلبتها بحاجة إلى تلقي المعارف والعلوم من مصادرها التي ظهرت فيها.
وقد أجرى ما يقارب ثلاثين بحثاً، وترجمَ ستة مؤلفات أجنبية، وقد نشر من بحوثه على شكل مؤلفات مطبوعة ستة عشر بحثاً إضافةً إلى الترجمات. وتقريبا نجد أنه قام بإنجاز (بحثين) كل عام في مسيرته الأكاديمية إضافةً إلى البحوث الصغيرة والجزئية أو الخاصة التي كان يُكلف بها من الجهات التي كانت تستعين بخبراته أو يعمل لديها اختصاصياً مثل عمله في وزارة الإعمار.
لقد كان البحث الاجتماعي يشغل حيزاً كبيراً من اهتماماته، فلم يكن يحبذ الركون للعمل المكتبي أو داخل أسوار الجامعة، بل كان يرغب في النزول إلى الميدان ومراقبة سلوك الناس وهم يمارسون حياتهم اليومية، ولقد كانت ملاحظاته في هذا المجال علمية، موضوعية ودقيقة، فكثيراً ما كان يحول ملاحظاته إلى افتراضات يُسقط بعضها ويرجح الأخرى ليخرج بنتيجة أقرب ما تكون للواقع.
لقد كان رائد علم الاجتماع العراقي (د. عبد الجليل الطاهر) ذا طموح كبير في إجراء بحوث اجتماعية رصينة وعلى درجة عالية من الدقة والموضوعية والشمول وخير مثال على ذلك تقدمه إلى جامعة السوربون لإجراء بحثين اجتماعيين وكان ذلك في بداية العام 1963، كان أحد هذين البحثين عن(النتائج الاجتماعية للإصلاح الزراعي في العراق) تحت إشراف الأستاذين (جورفتش) أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون، و(جان بيرك) أستاذ علم الاجتماع في كوليج دي فرانس طبقا للشواهد العقلية والنقلية.
والأكيد أن الـ(24) عاماً (1917 - 1941) التي قضاها في بيئة ريفية أتاحت له فرصاً كبيرة للتعرّف على العلاقات العشائرية والعصبية القبلية، وكيف أن القانون العرفي آنذاك كان له دور كبير ومؤثّر في حياة الناس، وبعد انتقاله إلى بغداد اطلع على حياة المدينة والتحضر ورأى مدى الفرق بينها وبين الريف، وكذلك أوجه التشابه فلقد شاهد كيف أن العلاقات الأولية في الريف تتحول إلى علاقات ثانوية في المدينة واطلع على حالات اجتماعية تتميز بها المدينة مثل التفكك الأسري والفقر والجريمة والسلوك المنحرف بينما تنعدم هذه الحالات تقريباً في البيئة الريفية التي عاش فيها نتيجة للعلاقات القرابية القوية والتكافل الاجتماعي.. ولم يكن بعيداً عن الأحداث في العالم أيضاً، فقد عايش إرهاصات وتأثيرات الحرب العالمية الأولى في العشرينات الميلادية، ثم رأى التغيرات التي حدثت في معظم المجتمعات الإنسانية، وعايش أزمة الكساد الاقتصادي العالمي، ثم ظهور النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا.. وكيف جرَّت هذه الحركات مجتمعاتها لنيران الحرب العالمية الثانية ومآسيها..!
وفي عام 1968 عاد إلى وطنه بعد فترة قضاها في فرنسا ومارس نشاطه التعليمي والبحثي بلهفة من دون كلل حتى وافته المنية وهو في مكتبة بالجامعة عام 1971 وهو منكب يصحح دفاتر الامتحانات النهائية للعام الدراسي 1970-1971، فأصابته نوبة قلبية مفاجئة لم تمهله طويلاً ليرحل في عقده الخامس بعد أن ترك منجزات علمية ومؤلفات ثرية ما زالت تزدان بها المكتبة العربية لعلم الاجتماع وتراثه الأصيل, واسماً لامعاً لا يزال حاضراً في ذاكرة أبو العلوم الاجتماعية (علم الاجتماع العربي).
ولا غرابة من ذلك فهو إحدى القامات السامقة لرواد علم الاجتماع العربي نتيجة التزامه العلمي وفكره المتقد.. وأكثر علماء الاجتماع العراقيين عطاءً وإثراءً نظراً لامتلاكه أفقاً واسعاً وحساً سوسيولوجياً عميقاً في رصد وتحليل الظواهر الاجتماعية في المجتمع الإنساني .. حيث كانت له بصمات واضحة وإسهامات بارزة في نمو علم الاجتماع الحديث في (بلد الرافدين) وممن أثروا بمعطياتهم البحثية على أرضية صلبة مع بقية الرواد الأوائل ومن أشهرهم الدكتور علي الوردي والدكتور أحمد العلي والدكتور حاتم الكعبي.. بعد أن اشتركوا في تأسيس أول قسم لعلم الاجتماع في جامعة بغداد في منتصف القرن العشرين, فكانوا من عباقرة العراق في زمانهم.