لا يشعر المترجمون بالقلق من اتّهام كروتشي إيّاهم بالخيانة، فما يستحيل نقله نقلًا كاملًا من لغة إلى أخرى لا يُشكّل انتهاكًا لمعيار الأمانة في النقل، وفي كل الأحوال، يبدو أنّ لدى المترجمين ما يشغلهم أكثر من مثالية كروتشي! يختلف ما يشغل المترجمين باختلاف شخصياتهم، وتعكس طبيعة هذا الانشغال قدر احترام المترجم، لنفسه أولاً، وللقارئ ثانياً، لكنها تعكس أيضاً ما هو أبعد من ذلك عند المترجمين من الطراز الرفيع، والأستاذ الدكتور حمزة بن قبلان المزيني مترجم من الطراز الرفيع.
ضمن مقدمته الرائعة لكتاب تشومسكي المعنون «آفاق جديدة في دراسة اللغة والذهن»، وفي معرض نقاشه موضوع الصلة بين النحو العربي ولسانيات تشومسكي، يورد المزيني ملاحظة ثاقبة بغرض الكشف «عن البنية المعرفية للثقافة العربية المعاصرة»، فالعديد من الباحثين الذين شنّوا هجوماً عنيفاً على الرأي العلمي والمتعلّق بافتراض وجود عوامل خارجية ساهمت في نشأة النحو العربي «لا يجدون غضاضة في إرجاع كثير من الإنجازات الفكرية الغربية المعاصرة إلى تأثير الثقافة العربية. وما الإيحاء بتأثر تشومسكي بالنحو العربي، بل تأكيد انطلاق تشومسكي من النحو العربي، إلا وجه من أوجه هذه البنية المعرفية»، (ص. 19).
لا يُقحم المزيني رأيه الخاص في موضوع نشأة النحو العربي، ذلك أن غرضه يبدو مقتصرا على كشف هذا التناقض في الموقف عند الكثير من الباحثين. لكن هذا ما يبدو على السطح فحسب، فالمزيني يتابع قائلاً: «ويجب أن أشير منذ البدء إلى أنه ليس من العيب أو المستغرب أن تنقل ثقافة عن ثقافة أخرى، بل إن هذا ما يحصل دائماً، سواء أكان ذلك بوعي أم من غير وعي، بل ربما أمكن القول، إن التأثير الإيجابي، والسلبي، نتيجة لازمة للتلاقي بين الثقافات»، (ص. 20).
قد يبدو ما يقوله المزيني هنا من قبيل البداهة، لكنّ المزيني يدرك جيداً أنّ ما يقوله ليس بدهيّاً عند عدد غير قليل من الباحثين العرب، فمن هؤلاء مَن جعل من الدفاع عن الهوية بأي ثمن فضيلة تعلو على فضيلة طلب الحقيقة أينما وُجدت. وحسْب القارئ الكريم، إذا أراد مثالاً على ذلك، الاطلاع على النسخة العربية لكتاب «عناصر يونانية في الفكر اللغوي العربي» للباحث الهولندي المعروف فيرستيغ، وسيعثر هناك على مقدمة د. محمد عدنان البخيت، وكذلك مقدمة المترجم د. محمود علي كناكري، وهما برأيي من أسوأ ما قرأت من مقدمات!
من بين ما يمتاز به المترجمون من الطراز الرفيع عمّن سواهم من المترجمين الالتزام الصارم بالأعراف الأكاديمية، وحتى حين يؤكدون على تلك الأعراف فإنّهم - بوصفهم مثقفين قبل أن يكونوا مترجمين - يرمون إلى ما هو أبعد منها. ولعلّي أذكر هنا مثالين: أحدهما الموقف الحازم والعقلاني للمزيني من العلم الزائف حول اللغة العربية، وتمحيصه للعبارة المنسوبة إلى وليم غلادستون في الأدبيات العربية، فإنْ بدا المزيني في كلا المثالين مُوبّخاً لأولئك المنتهكين لأبسط الأعراف الأكاديمية، فإنّه لا يغفل أيضاً عن حقيقة أنّ ما يدفع بعض الباحثين العرب إلى انتهاك تلك الأعراف لا يختلف في كثير من الأحيان عمّا يدفعهم إلى «إرجاع كثير من الإنجازات الفكرية الغربية المعاصرة إلى تأثير الثقافة العربية».
إن ما يجعل المزيني مترجما من الطراز الرفيع لا يقتصر على قدراته الأكاديمية أو مهاراته الذاتية، فهذه متاحة لكل من أخلص في عمله، ولا يكمن في ما يختاره من موضوعات فكرية شائكة، فهذا هو ميدانه، بل في هذا التناغم المثير للإعجاب بين ترجماته وأفكاره، بين ما يراه جديرا بالنقل وما يراه خليقا بالذود عنه، بين تسامحه مع ثقافة الآخر واعتزازه بثقافته الخاصة، وقد نجح في أن يتعلّم من الآخرين حتى أصبح قدوة فيتعلّم منه الآخرون، فالمترجم من الطراز الرفيع يحلم دائماً بأجيال تُكمل المشوار، فهو لا يحرص فقط على أمانة النقل، بل يحرص أيضا على نقل الأمانة.
** **
د. فهد راشد المطيري - أستاذ فلسفة اللغة واللسانيات، في كلية التربية الأساسية في الكويت.