د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في هذه الفترة أقرأ كتاب الأستاذ جواد علي بعنوان: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، والأستاذ جواد علي من أفضل من كتب عن تاريخ العرب في الجاهلية، وما بعدها، كما أنني أقرأ في نفس الفترة، كتب هشام بن محمد الكلبي في التاريخ، والتفسير والحديث، وأيضاً كتب والده محمد بن السائب بن بشر، وهو أيضاً عالم، قد تتلمذ الابن عليه، وعلى عدد من العلماء مثل بن الفرا وغيره، والجدل حولهما كثير في مدى صحة ما ينقلان، سواء في التفسير أو الحديث أو حتى في نقل الأخبار، ولكن هذا ليس موضوع الحديث عن ذلك، وكنت في نفس الوقت أكتب مقدمة أحد كتبي عن الأندلس، وأذكر فيها سيرة العلامة الأستاذ عبد الهادي التازي رحمه الله الذي تربطني به، وبعالم المخطوطات ورئيس الخزانة الملكية المغربية الأستاذ أحمد شوقي بنبين علاقة أخوة ومحبة صادقة، مهرها العلم والثقافة، وهما عالمان مقدران من قبل القيادات الكريمة في المملكتين الشقيقتين المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية الشقيقة، ولا أذكر أنني قد أقمت مناسبة رسمية إلا وقد دعوت هذين العالمين لها، فيثريان المجلس بالعلم والثقافة، والملح الخفيفة والجميلة.
وهذا ذكرني بإحدى الملح التي نقلها لي الأستاذ العلامة عبد الهادي التازي نقلاً عن الأستاذ والعالم جواد علي رحمهم الله جميعاً، وذلك عندما كان الأستاذ التازي سفيراً لبلاده في العراق الذي مكث فيها مدة لا بأس بها، كما أنه أيضاً عمل سفيراً في ليبيا، وكتب عن ذلك كتاباً لدي نسخة منه.
يقول الأستاذ جواد علي إنني كنت ذات مرة متجهاً من منزلي إلى مكتبي، وقد استأجرت أحد سيارات التاكسي لإيصالي إلى مكتبي، وبعد مدة من ركوبي والصمت مطبق علينا أنا والسائق، أردت أن أسمع شيئاً يزيل عنا ملل الصمت، فطلبت من السائق مشكوراً، أن يفتح المذياع لنسمع شيئاً نكسر به هذا الصمت: فقال حسناً، وفتح المذياع، فإذا به يبث عبر الأثير برنامجاً عن اللغة العربية للأستاذ جواد علي، أذكر أنه بعنوان: قول على قول، ولكن صاحب التاكسي لا يروق له هذا الحديث الذي لا يفهم منهم شيئاً، وهو برنامج يبث يومياً في نفس الوقت، فما كان من سائق التاكسي إلا أن أغلق المذياع وقال بنبرة غاضبة، وصوت مرتفع: اسكت لعنك الله يا ابن كذا، ويقول الأستاذ جواد علي: إنني كدت أموت ضحك، فهو لا يعلم إنني جواد علي، غير أنني لا ألومه على ما فعل، لأن هذا ميدان غير ميدانه، وما لا يستهويه ولا يستسيغه وهو بالنسبة له ممل جداً، فما بالك أن يبث يومياً، ويحرمه من سماع ما يأنس به من موسيقى وطرب، أو قصص وحكايات شعبية، ويقول الأستاذ جواد علي: إنني لم أتمالك نفسي من الاستمرار في الضحك حتى وصولي، وهو يعتقد أنني موافقه على ما قال، ويقول الأستاذ جواد علي: إنني عندما هممت بالنزول قلت له وأنا ضاحك: أنا جواد علي الذي يتحدث عبر المذياع، وتركته ولا أعلم ما فعل.
وبعد ذكر هذه الطرفة الجميلة التي زودنا بها المرحوم العلامة الأستاذ عبد الهادي التازي، يمكننا الحديث عن كتاب جواد علي ورأيه في ما نقل لنا من أخبار وشعر في الفترة التي تسمى الفترة الجاهلية، وهذه الفترة سميت بالجاهلية بعد ظهور الإسلام للتفريق بينها وبين الفترة اللاحقة التي سطع نور الإسلام فيها على العالم أجمع، وأصبح العربي أكثر نوالاً للخير، والحقيقة أن العرب مقلون في التدوين، يحبون المشافهة، كما أن لديهم ملكة حفظ كبيرة يستخدمونها في حفظ الشعر، وقليل من النصوص، والشعر أيسر للحفظ لأن به موسيقى وأنواع البديع، والوصف، كما أنه أيضاً يعبر عن الوجدان وشجاعة الشجعان، وقت الطعان، والوفاء والأخلاق، وغيرها، ولهذا فقد وصل إلينا الشعر أكثر من النص، لأنه أيسر من النصوص، و هناك من يلوم العرب على أنهم لم يكونوا كالأقوام المجاورة لهم مثل اللاتينيين، والسريان، والفرس الذين اعتمدوا على التدوين، والحقيقة أن لهم عذراً في ذلك، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار الطبيعة الصحراوية، والبيئة والطقس الذي يعيش فيه عرب الجزيرة الذي يجبرهم على الترحال الدائم ويصعب معه حمل المدونات من فترة لأخرى، ومن مكان إلى آخر، وأصبح اعتماده على الحفظ والذاكرة أيسر من الكتابة وحمل الأسفار.
لقد شكك المستشرقون في الشعر الجاهلي، وذكروا أنه موضوع، أو كثير منه وتبعهم في ذلك عدد لابأس به من المثقفين في هذا القرن، والقرن الذي سبق، ومن أشهرهم طه حسين الذي تبناه بشكل محموم، من خلال طبيعته الانفعالية، مع قدرته العلمية.
هناك من المحدثين من يرى أن النقوش والمخطوطات هي الأساس التي يمكن الاعتماد عليها في صحة المعلومات، وإنما يتناقله الأخباريون وما تحمله الذاكرة، لا يمكن الاعتماد عليه كأساس للمعلومة، والحقيقة أنه لا يمكن الأخذ بذلك كله، ولا يمكن أيضاً إغفاله كله، التوازن مطلوب في جميع الحالات، وربما أن الأستاذ جواد علي، قد أخذ ولو بشكل جزئي بالرأي الأول.