د. عبدالحق عزوزي
إن الخرائط التقليدية للجيوبوليتيك قد تغيرت... فيخطئ الكثيرون عندما ينظرون بنوع من الحنين إلى العالم القديم وإلى صراعاته الكلاسيكية ويقرون على أنها حبيسة المنطق الترابي أو السياسي أو الاستراتيجي في حين أن العالم أضحى متحركاً، ومحدداته متخطية لحدود الدولة-السيادة وفي تنظيم مستمر تحدده التحركات والسلوكات الاجتماعية حول تحديات معظمها اقتصادية-اجتماعية... ومع غزو أوكرانيا أصبحنا في حقبة جديدة، ومع هزيمة روسيا لأوكرانيا سيؤدي ذلك إلى تغيرات جيوسياسية واسعة في أوروبا وفي أهداف حلف الناتو والنظام العالمي القائم، ولربما في بداية حقبة قد تسيطر فيها الصين على تايوان وجنوب شرق آسيا وخلق ثلاث كتل في العالم «أمريكية وروسية وصينية» إلا أنه قد تعم الفوضى والصراع العالميان، حيث ستتكيف كل منطقة في العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوة....
ومع الغزو الروسي لأوكرانيا، بدأت تظهر للعالم وبخاصة الأوروبيين قيمة بعض المناطق الجغرافية كالبحر الأسود الذي يُعد شريانًا رئيسًا لحركة السلع عند مفترق طرق أوروبا وآسيا؛ إذ تطل ست دول على البحر الأسود، إلا أنه يمثل أهمية بالغة للعديد من البلدان الأخرى وراء حدودها، بسبب تجارة الطاقة والصلب والمنتجات الزراعية؛ كما تمر منتجات النفط الخام والمكرر من روسيا وأذربيجان وكازاخستان عبر موانئ التصدير على الحافة الشرقية للبحر الأسود... كما بدأت تظهر للعالم قيمة السلم والسلام، وقيمة الدول المصدرة للقمح والغاز والبترول وما سينتج عن الأزمة الروسية-الأوكرانية من انكماش اقتصادي ومن مجاعات في العديد من دول العالم...
فقد صرحت مؤخراً المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا خلال ندوة في منتدى دافوس بأن الاقتصاد العالمي قد يواجه «أفقاً قاتماً» وبأن «العام سيكون صعباً»، وبأن «أسعار المواد الأولية وخصوصاً أسعار المواد الغذائية» يشكل صدمة... وكان صندوق النقد الدولي قد خفضّ من توقّعاته للنمو العالمي إلى 3.6 بالمائة للعام 2022 في إبريل الماضي بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا، ويمثل ذلك تراجعاً قدره 0.8 نقطة مئوية مقارنة بتوقعات كانون الثاني/يناير.
والظاهر أننا سنشهد انكماشاً في بعض البلدان التي لم تتعافَ من أزمة كوفيد، والتي تعتمد بشكل كبير على روسيا أو على استيراد المواد الغذائية وعلى رأس تلكم الدول إفريقيا؛ وهو ما أكده رئيس الاتحاد الأفريقي ورئيس السنغال ماكي سال منذ أيام لنظيره الروسي فلاديمير بوتين حيث صرح بأن الدول الإفريقية هي «ضحية» للنزاع في أوكرانيا، مشيراً إلى أن «غالبية الدول الأفريقية تجنبت إدانة روسيا» خلال عمليتي التصويت في الأمم المتحدة»؛ والذي يعنيه الرئيس السنغالي أنه يجب تجنب معاقبة إفريقيا غذائيا بسبب أزمة يتناولونها بالحياد التام، وأنه إذا استمر هذا الحصار الغذائي في نزاع لا يدري أحد متى سيتوقف، فسنصل إلى «مجاعة» لا سيما في دول إفريقية عديدة.
وهناك مخاوف حقيقية من أزمة غذائية عالمية بعدما أدى الهجوم الروسي على أوكرانيا إلى شلل الصادرات الغذائية من كبار المزارعين؛ وأدى ذلك إلى ارتفاع أسعار الحبوب التي تجاوزت ما كانت عليه إبان الربيع العربي عام 2011 وأعمال الشغب بسبب نقص الغذاء عام 2008.
وقد أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن 8 إلى 13 مليون شخص إضافيين قد يعانون سوء التغذية في العالم إذا استمر هذا الأمر؛ إذ لم تعد تخرج أية سفينة من أوكرانيا التي هي أيضاً رابع مصدر للذرة وكانت في طريقها لتصبح ثالث مصدر عالمي للقمح في العالم وتؤمن وحدها 50 في المائة من التجارة العالمية في البذور وزيت عباد الشمس قبل النزاع...
في جانب الاستراتيجية، زيارة الرئيس ماكي سال إلى روسيا تكون قد أعجبت لا محالة الرئيس الروسي في وقت يعرف فيه عزلة غربية.. وتعطي هاته الزيارة أيضاً الانطباع بأن روسيا هي ورقة إفريقية-دولية لا يمكن الاستغناء عنها، وأن روسيا بجانب الدول المحايدة أو المستضعفة؛ لاحظ معي: في الشق العلني من اللقاء، تم نقل تصريحات الرئيس السنغالي فيما يتعلق بالأزمة الغذائية في إفريقيا وبأن دولها دول محايدة؛ أما بوتين فلم يتطرق إلى هذا الموضوع في الشق العلني من اللقاء. ولكن ذكر في المقابل بـ«الدعم» الذي كان يقدمه الاتحاد السوفياتي للدول الإفريقية «في نضالها ضد الاستعمار» مشيداً بتطور العلاقات الروسية-الإفريقية وبأن الغرب وحده يتحمل مسؤولية ما يجري.