د.عبدالله بن موسى الطاير
ربما هي مشكلة البشر، يتجاهلون مؤشرات السعادة، ويجزمون بحلول التعاسة في حياتهم، فهل نعيش السعادة دون أن نعيها، أو نعرفها دون أن نعيشها؟ هل نحن سعداء ولا ندري، وكيف نعلم أننا لسنا سعداء؟ هل السعادة معرفة، شعور، سلوك، طبع، أو هي حياة؟ هل الفرح مرادف للسعادة؟ وهل حالة الإثارة التي يبعثها الفرح هو شعور بالسعادة؟ وعندما يمسنا أحدنا طائف من التعاسة، ثم يتبدل حاله من بعد ضيق إلى فرج، هل يمكن توصيف لذة الفرج على أنها سعادة أم فرح؟
من التبسيط وضع التعاسة والسعادة على طرفي نقيض؛ فنجمل المشاعر السلبية الناجمة عن الفشل، والمرض، والخذلان، والضيق، والألم والحزن على أنها تعاسة، وفي المقابل نصنف المشاعر الإيجابية الناجمة عن النجاح، والصحة، والتأييد، والسعة، واللذة، والسرور على أنها سعادة. هذا التبسيط ربما يساعد تمييز الحالة الشعورية والذهنية التي تنتابنا، وما إذا كانت للحظة أو لحياة ممتدة.
التقاطع العجيب الذي يحدث أحيانا بين السعادة والتعاسة يبعث التساؤل عن تلازم المشاعر في اللحظة الواحدة، فعندما تستمع إلى أغنية قديمة مفضلة (مثلا)، تنبعث في داخلك مشاعر إيجابية، لا تلبث أن تلفها مشاعر سلبية، إذ سرعان ما تفيق من النشوة اللحظية على حقيقة أن الوقت غير الوقت، والمصاحبات الظرفية والمكانية والزمانية ليست هي بالطبع؛ فأنت سعيد أنها استدعت من مخزون الذكريات حالة من البهجة ضمن إحداثيات زمنية ومكانية وظرفية تراكمت عليها أنقاض السنين أو العقود، فقدحت في نفسك شعورا عارما بالفرح، وفي الوقت ذاته حصل ارتداد مشوب باليأس مبعثه حقيقة أنك لا تستطيع أن تعيش تلك اللحظة مجددا وبشروطها كما حدثت في السابق، فتجاور في داخلك شعوران متناقضان في وقت واحد.
وتنثال الأسئلة غزيرة عندما نحوّل السعادة من حالة مجردة إلى مفهوم يمكن تأطيره معرفيا، والإشارة إليه، ومن تلك الاستيضاحات: هل السعادة انبعاث من ذواتنا لذواتنا؟ أم هي صدى لمؤثرات خارجية تقدح في أرواحنا السعادة؟ هل السعادة جزء من أرواحنا أو كائن مستقل عنها؟ وهل نعيش السعادة، أم نترقب لحظة حدوثها لنعيشها؟
تُعرِّف المؤلفة والأخصائية النفسية كندار تشيري السعادة على أنها حالة عاطفية تتميز بمشاعر الفرح والرضا والقناعة، والإنجاز، والطمأنينة، وتنطوي على «المشاعر الإيجابية والرضا عن الحياة»، واعتبرتها «رفاهية ذاتية» تتمركز حول «المشاعر الشخصية العامة للفرد في وقت حدوثها». وحتى يكون الشخص سعيدا لا بد أن يتحقق لسعادته شرطان هما «التوازن العاطفي»، و»الرضا بالحياة التي يعيشها».
كثير منا يتقلب في النعم، ولكنه ليس سعيدا أو ربما لا يدري أنه سعيد، لأنه لا يعرف معنى السعادة أو لا يستطيع التفريق بين السعادة والفرح، أو يتعمد ادعاء التعاسة توجسا من عيون الحساد الحارة، ولذلك يدعي خلاف المؤشرات المتراكمة الدالة على السعادة. الحديث هنا عن الأصحاء نفسيا وذهنيا، وليس عمن يعانون اضطرابات نفسية أو ذهنية قد تحول بينهم وبين تجريب مشاعر السعادة، وإن توافرت ظروفها. ولذلك وضعت المؤلفة مؤشرات يمكن الاستدلال بها على الحالة النفسية أو الشعورية الباعثة على السعادة، ومنها:
- الشعور بأنك تعيش الحياة التي تتمناها،
- الشعور بجودة ظروف الحياة المتاحة لك،
- الشعور بأنك حققت أو ستحقق أهدافك في الحياة،
- الشعور بالرضا عن حياتك،
- الشعور بأن الإيجابيات في حياتك أكثر من السلبيات.
وتخلُص من هذا النقاش إلى «أن السعادة ليست حالة من النشوة المستمرة؛ بدلاً من ذلك، السعادة هي شعور عام بتجربة المشاعر الإيجابية أكثر من المشاعر السلبية».
وإذا كانت السعادة هي «عاطفة يشعر فيها المرء بمشاعر تتراوح من القناعة والرضا إلى السعادة والسرور الشديد»، فإن الفرح هو «شعور أقوى وأقل شيوعًا من السعادة؛ إن مشاهدة أو تحقيق نكران الذات إلى حد التضحية الشخصية، يؤدي في كثير من الأحيان إلى إثارة مشاعر الفرح، ومن ذلك الشعور بالارتباط الروحي...». وإذا كان البعض يعتقد أن «الفرح حقيقة أساسية لا يمكن للظروف الجيدة أو السيئة أن تمليها، وأن السعادة متجذرة في الظروف، فإن آخرون يعتقدون العكس؛ فالفرح عندهم هو مجرد حالة ذهنية، ينتجها عقل يبحث عن السعادة، ويركز على اللذة وعلى الأفكار السارة والتجارب الممتعة».
ولو كنتُ في موقف يسمح لي بتعريف السعادة ووضع مؤشرات دالة عليها لوضعت الطمأنينة في مقدمة بواعثها. وأذكر أن والدي -رحمه الله- كان كلما مرّ بي وأنا مهموم بأمر أو في حالة من القلق واليأس يردد وهو عابر من أمام غرفتي {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، كان يعرف أنه لو توقف أمام ذلك المراهق ينصحه، فإنه في الغالب لن يعار أذنا صاغية، ولذلك فقد كان يرمي لي السنارة لاصطياد السعادة.
غياب مشاعر السعادة والفرح عن حياتنا قد يكون مؤشرا على اعتلال نفسي أو ذهني، وليس عيبا أن نبحث عن السعادة في ذواتنا وفي خضم الظروف المحيطة بنا، فإن عجزنا عن ذلك بأدواتنا، فلا ضير في طلب العون من المختصين، فاصطياد السعادة والفرح جائز في كل المواسم والأمكنة.