حمّاد بن حامد السالمي
ما أكثر المدن والبلدات الصادية في عموم وطننا العربي الكبير، تلك التي يبدأ اسمها بحرف الصاد، أو فيها حرف صاد من المدن والبلدان والبلدات الصادية، التي فيها الجمال وضده، سواء في مكانها أو في إنسانها، وهذه حال المدن في كل مكان وزمان. دعاني إلى هذا؛ ما وقفت عليه مؤخرًا من كلام وشعر في مدينة عربية (صادية) كبيرة وتاريخية هي صنعاء عاصمة اليمن، لأنها المدينة العربية الجدلية منذ ما قبل الإسلام. جدلية سياسيًا وعقائديًا وقبليًا. لم تعرف الاستقرار منذ أن وطئتها أقدام الفرس والأحباش في عصر ما قبل الإسلام، ثم تتجدد غزوات الفرس لها في العصر الحديث؛ عن طريق مكون سكاني له جذور فارسية، فهو ظل وما زال يمني الهُويّة، فارسي الهوى، في ثوب حوثي ملوث. صنعاء.. رغم معاناتها وفقرها وتاريخها المأسوي؛ كانت موئلًا للعلماء، وقبلة لطلاب العلم. يُذكر أن (الإمام أحمد بن حَنبَل)؛ حج ذات عام، وكان يسأل عن العالم اليمني: (عبدالرزاق الصنعاني)، وينوي السفر إليه في صنعاء، فقيل له: لقد كُفيت همّ السفر، فإن العالم الصنعاني هنا، فقال: (لا بد من صنعاء وإن طال السفر)، حبًا في التبحر في العلم. ثم إن الإمام الشافعي؛ صاغ هذه المقولة في بيت من الشعر فقال:
لا بد من صنعاء وإن طال السفر
وأقصد القاضي إلى هجرة دبّر
ودبّر هذه؛ قرية في سنحان في اليمن، والقاضي هو العالم: (إسحاق بن ابراهيم الدبّري). كان هذا قبل أكثر من ألف ومئتي عام. وفي العصر الحديث؛ نظم الشاعر اليمني (عبدالعزيز المقالح)؛ قصيدة انطلاقًا من مقولة الإمام أحمد بن حنبل فقال في بدايتها:
لا بد من صنعاء وإن طال السفر
لا بد منها.. حبنا.. أشواقنا
ويظل الشعر العربي؛ يلازم هذه العاصمة العربية الصادية مادحًا قادحًا، وإذا جاء من أبنائها؛ فهو أبرز وأميز، فهذا شاعرها الأول: (عبدالله البردوني ت 1999م) يصور حال مدينته الصادية صنعاء، العاصمة الحُبلى بالخطوب الجسام، وكأنه يخاطب أبا تمام صاحب قصيدة: السيف أصدق أنباء من الكتب، فيقول من قصيدة:
ماذا أحدث عن صنعاء يا ابت؟
مليحة عاشقاها السل والجرب
ماتت بصندوق «وضاح» بلا ثمن
ولم يمت في حشاها العشق والطرب
ومن أجمل القصائد التي ينسبها بعض مدوني اليمن للشاعر اليمني: (أنس الحجري)؛ بينما يراها آخرون أنها للبردوني- ربما لقوتها وسبكها الذي يشبه حال قصائد البردوني- هذه القصيدة؛ التي تصور حال الصادية صنعاء مع المليشيات الحوثية المحتلة لها منذ سبع سنين؛ حيث أحالتها إلى عاصمة لها، ومنطلقًا لعدوانها على بقية مدن اليمن شماله وجنوبه، وعلى دول الجوار العربية، وهي تنفذ أجندة فارسية عدوانية على العرب أينما كانوا، وكأن صنعاء؛ ما انفكت مطمعًا للفرس؛ الذين غزوها قبل البعثة المحمدية وبعدها، وغرسوا فيها من أصلهم ونسلهم؛ المكون الحوثي الخبيث. يقول الشاعر مخاطبًا (العم سام).. قاصدًا الولايات المتحدة الأمريكية:
ماذا عَن القوم؟! لا عادُوا، ولا وَصَلُوا
ولا عَلِمنا بأيِّ الأرضِ قد نَزَلوا
هل أحرَزوا النصر؟ أين الريحُ تُخبرنا
ما عادت الريحُ بالأخبارِ ترتحلُ
زادُوا على تَعَبي خَوفاً ومَسكَنَةً
جادُوا عليّ، ألا يا ليتهم بَخِلوا
يا سامُ أَسألُ نفسي مَحضَ أسئلةٍ
أرجو الجوابَ، ولكن تَبخَلُ الجُملُ
يَموت فيها كلامُ الشعر في لغتي
وفي شفاهِ العذارى تُنحَرُ القُبَلُ
ماذا أقولُ لِصنعا حين تسألني
عنهم، أَلَم تَدرِ صنعا أنهم ثَمِلُوا؟
تبكي وتندب قوماً كلما خرجوا
من مَعبرٍ مظلمٍ في مِثلِهِ دَخلوا
كأنهم وسْط نارِ الحرب موقدُها
في الأرض، ما خُلقوا إلا لِيقتتلوا
يا سامُ قُم لترى صنعاءَ منهكةً
طغى عليها الفتى الملعونُ والعِللُ
تدورُ حولَ مفاهيمٍ مُزيفةٍ
كما تَدورُ على العصّارةِ الإبلُ
يا سامُ قُم لِتَرى صنعاءَ مُوجَعةً
تُبدِي الدموعَ، فَتُبدي صَمتَها الدولُ
بكاؤُها اليومَ يُبكي كُلَّ ذي خلدٍ
وخلفهُ نفخةٌ يَرمِي بها الأزلُ
وأنتَ تَسكن في قبرٍ، وتترك ما
بَنيتَ، والأرضُ جرحٌ ليس يندملُ
يا سامُ قُم لترى صنعاءَ، إِنَّ بها
قوماً يزيدون جوعاً كلما أكلوا
ذئبٌ تَذمَّر مِن ظُلم الحياةِ، ومن
جَورِ القويِّ وفي أنيابهِ حَملُ
لا شأنَ لي بعليٍّ أو معاويةً
ولا بمن رفضوا حكماً ومَن قبِلوا
شيخٌ يُفتّش في التوراةِ ليس له
شغلٌ سوى المدحِ في أمجادِ مَن رحلوا
أتى لِيُشبعَ جُوعِي ثم أشبعني
مَوتاً، وها أنذا في القبر احتفلُ
أتى يُضمّد جرحي ثم وسَّعَهُ
نجاسةٍ بلعابِ الكلب تَغتَسِلُ
تقولُ صنعا بأن الحظَّ يكرهُها
وإن دَنَت مِن سبيلٍ أغلِقت سُبلُ
قالت لنا: ذاك ربي، ذاك أكبرُهُم
جهلاً بهم، ثم تابَت بعدما أفلوا
المشتري بائعٌ، والأرضُ واقفةٌ
قل لي لمن تنشد الأشعارَ يا زُحلُ؟
هم يَكذبون عليها كلما نَطَقوا:
نحن العروبةُ يا صنعا.. ونَحن أُولُو
سنَقتل الظلمَ غدراً لا مقارعةً
وحين تؤمِنُ صَنعا تَكفُرُ الحِيلُ
وحين تَسمعُ ما قالوه يُخجلها
سَماعُهُ، والذي قالُوهُ ما خَجلوا
يا سامُ قُم لِترى صنعاءَ أغنيةً
بغى على لحنِها التقليدُ والمللُ
كانت تفوحُ بطِيبٍ ثم حوّلها
إلى دُخَانٍ، وأضحى يُضرَبُ المَثلُ
الداءُ من جهةٍ، والفقرُ من جهةٍ
والشَّرُّ مُنفَتحٌ، والخيرُ مُنقَفِلُ
ما للظفائر يا بلقيسُ تأكلها
نارٌ بها هذه من تلك تشتعلُ
عودي كما كنت أُمّاً كي أعودَ أباً
منك البخور ومني البنُّ والعسلُ
يا مَن يُعلمني نحواً وتَوريةً
تعال أخبِرْكَ ماذا يَصنع البَدلُ
لا تَحسبِ الأرضَ عن إنجابِها عَقِرت
مِن كُلِّ صَخرٍ سَيأتي لِلفِدا جَبَلُ
فالغصنُ يُنبتُ غصناً حين نَقطعه
والليلُ يُنجبُ صبحاً حين يَكتملُ
سَتمطر الأرضُ يَوماً رغم شِحّتِها
ومِن بطونِ المآسي يُولَدُ الأملُ
** **
#حماد_السالمي