تتميّز القصص القصيرة الإبداعيّة بقدرتها على تصوير الواقع الذي نعيشه وتحويله إلى حكاية تخيّليّة، وإن جاءت من زاوية رؤية السارد للمَشاهد، وعمق شعوره بها وفقًا لفلسفته الحياتيّة ومعتقداته وأفكاره، أي أنّها تنقل لنا الواقع المعيش من منظار الكاتب وبصبغته الشخصيّة؛ ولا أظنّ أن للقصص القصيرة معنى بدون هذا العمق المتعدّد الأوجه الذي يخلق قيمة أدبيّة وثقافيّة للحكاية المرويّة المعتادة، ويُديم حضورها في المشهد الثقافي، إذا التزمت بباقي الاشتراطات الفنّيّة واللغويّة، وهو ما نلمسه عند استعراضنا للأدب العالميّ الخالد كقصة «هيا بنا يا أبي» للكاتب الروسي العظيم أنطوان تشيخوف ... هذه الفلسفة ينبغي أن تقودنا في مطالعاتنا الأدبيّة، أكانت قصصيّة أم روائيّة، فلا نقبل الحكايات السطحيّة الخالية من العمق، مهما كان جمالها الشكليّ وإبداعها اللغويّ، ونرفض القصص التي لا يمكن فهمها واستيعابها بسهولة، والتي تُدخلنا في ما يشبه الأحاجي والطلاسم. تبعًا لهذا المفهوم، أعتقد أنّني قد وجدت بغيتي في عدد من حكايات المجموعة القصصيّة للأديبة وداد معروف، المعنونة «مِس كليوباترا»، والتي اختارت لغلافها صورة معلّمة تتوسّط تلميذاتها، كتجسيد لإحدى قصص المجموعة التي تحمل العنوان نفسه؛ ومع أنّ الغلاف جذّابٌ، إلّا أنّني تمنّيت لو أنّ ملامح الفتاة كانت قريبة الشبه بالملامح الفرعونيّة المتعارَف عليها، أو على الأقلّ لو أنّ مصمّم الغلاف تقيّد بالوصف الذي ذكرته المؤلّفة، حيث أشارت إلى أنّ وجهها بيضاويّ وتمتاز بكحلها الفرعونيّ.
في الإهداء نجد تجسيدًا لحالة الفقد التي تعيشها الكاتبة لمفارقتها فلذتَي كبدها «دينا» و»مالك»، إذ فيه وصف للحزن الذي لا يزال يعتمل في صدرها رغم تباعد الزمان وتقادم الذكريات؛ وهو أمر نلمسه في عدد من قصص المجموعة، كقصّة «صوت أخضر» التي عبّرت صراحة عن هذا الشعور المؤلم، وكذلك في قصّة «مِس كليوباترا» التي أوقفتنا على مفارقة قد نعيشها عندما نبكي فقدًا لا نعلم ما سيجلبه لنا مستقبلًا، أكان خيرًا أم شرًّا، كما حدث في قصّة الخضر مع موسى - عليهما السلام - عندما قتلَ الخضرُ الغلام خشية أن يُرهق أهله طغيانًا وكفرًا، وهو نوع من التعزية؛ نجدها أحيانًا في بعض المصائب التي رغم عِظَمها قد تحمل لنا خيرًا على المدى البعيد? كما حدث مع المعلّمة «ماجدة عزيز محمود» - بطلة قصّة مِس كليوباترا - التي رُزقت بالبنين والبنات، ومع ذلك ظهرت معدَمة، وقد انتهي بها الحال في دار للمسنّين...
هذا التلاقي بين الحياة الحقيقيّة التي يعيشها الراوي وبين حكاياته التخيّليّة، يجعلنا نؤمن بأنّ الكاتب لا يمنحنا صحفًا نقرأها فحسب، بل يجسّد أمامنا الواقع من خلال أحرفٍ مغموسة بالألم أو بالفرح ... فالإهداء الجميل الذي توّج أقاصيص هذا الكتاب، يوقفنا - رغم بساطته وتقليديّته - على حقيقة أنّنا في عطائنا ينبغي أن نعبِّر عن مشاعرنا، وما يختلج في صدورنا، ويتّصل بقيمنا وأخلاقيّاتنا، من دون الالتفات إلى ردود فعل الآخرين، مهما كانت؛ فربط العطاء بالآخرين قد يوصلنا إلى التقتير والبخل، وربما الكفّ كلّيًّا عن البذل، في حين أنّ تضحيتنا بأنفسنا في سبيل العطاء يزيد هذه السِّمة تدفُّقًا، ويضمن استمراريّتها واستمتاعنا بها.
تتضمّن هذه المجموعة سبعًا وعشرين قصّة قصيرة متفاوتة الطول، لا تبتعد في مجملها عن تصوير الواقع الذي نعيشه، من زوايا مختلفة؛ فنجدها في «عود البخور» توقفنا بسردها الجميل عند تلك اللحظة التي نعيشها على أنفاس الذكريات، إذ تحكي لنا قصّة رجلٍ فقدَ زوجته، فقرّر أن يُسعدها في قبرها بترك إرثها لابنتها ربيبته؛ لقد جاء السرد إبداعيًّا، يحرّك مشاعرنا بوصفه لدقائق الأمور، مصوّرًا الحال التي كان عليها الزوج المكلوم وهو يمرّ بالمكان ويستنطقه، فتعود الذكريات... وكأنّه يريد إخبارنا أنّه من الصعوبة بمكان العودة إلى موطن سعادتنا بعد فقد سرّ هذه السعادة. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الإغراق في التفاصيل، إن كان موظّفًا توظيفًا صحيحًا، يُعَدُّ مزية لا تُخِلُّ بالعمل، بينما لا يكون كذلك في مواضع أخرى، كما سنرى لاحقًا.
تُوقفنا أيضًا قصّة «مِس كليوباترا» على حالة إنسانيّة تجسِّد غدر الأبناء بآبائهم، وهدمهم الجدار الذي كان يحميهم في مواجهة أعاصير الحياة ... فقد وَفِّقت الكاتبة في التقاط الزاوية المناسبة لتناول هذه الحالة المتكرّرة، ومنحتها شيئًا من الأصالة عندما أتت بتلميذة من تلميذات «مِس كليوباترا» لتظهر من خلالها قيمة هذه المعلّمة المتميّزة التي استطاعت أن تكون معلّمةً وأمًّا لتلميذتها في آن؛ وكأنّها تشير من طرف خفيّ إلى أنّ من نجحت في أن تكون أمًّا لتلميذتها لن تعجز عن أن تكون أمًّا لفلذات كبدها، وإنّما هو العقوق الذي يُكافئ به بعض الأبناء والديهم.
من الأمور الجميلة التي استوقفتني في هذا الكتاب، وجهة نظر الكاتبة في موضوع السعادة التي أخذت منحيَيْن مختلفين؛ ففي قصّة «عطوة وجميلة» ربطت الفقر بالسعادة، وناقشت مدى تأثّرهما ببعضهما. ما يدفعنا للتساؤل بحسرة ممزوجة بالألم، إن كان على «عطوة» أن يتمنّى السعادة في أحلامه فقط، ولا يسعى للاقتراب منها في واقعه مطلقًا؟! كما يحضرنا سؤال آخر: أليس من حقّ الفقراء أن يسعدوا في هذه الدنيا ولو بالشيء القليل؟ لنجد أنفسنا في النهاية نبتسم بسخرية من هذه الحياة التي نعيشها في عالمنا، والتي تدفع هؤلاء الضعفاء إلى التخلّي عن مشاعرهم، مكتفين بما يقيم صلبهم ... ببساطة، تخبرنا هذه الحكاية الجميلة، أنّ الفقر مؤلم جدًّا، وهو غالبًا ما يقف حائلًا بين الفقراء وسعادتهم، إذ يقاتل حتّى يبقيهم تعساء، مهما حاولوا التفلّت منه.
بينما نجدها تتناول موضوع السعادة بشكل مختلف تمامًا في قصّة «ليلة العيد»؛ فتحثُنا للسؤال باستنكار: ما الذي يمنعنا من السعادة؟! لِمَ ننظر إلى سعادة غيرنا ونغبطهم أو نحسدهم عليها، ونُحجم عن أيّ فعل قد يُشعرنا بالسعادة التي يشعرون بها؟! لِمَ يبقى بعضنا أسير أمنياته دون أن يحاول تطبيقها على أرض الواقع، رغم بساطتها وسهولة تحقيقها؟! وكأنّي بالكاتبة تريد إخبارنا، في نهاية الأمر، أنّ هناك صنف من البشر ممّن يُحجمون عن فعلٍ بسيط قد يجلب لهم السعادة التي يرجونها، ويرضون بالتعايش معها كحلم صعب المنال، فيكابدون الكثير من المشاقّ من دون أن يُقْدِموا على الخطوة التي يحتاجونها كي يجعلوها واقعًا، مع أنّ الفعل أيسر كثيرًا من الحلم! أظنّ أنّ الكاتبة أرادت من خلال هذا التضارب أن توصل لنا رسالة فحواها أنّ الفقر، بل كلّ المنغّصات التي تخنقنا، لا تنتصر دائمًا، وإنّما بإمكاننا هزيمتها إن قمنا بما ينبغي القيام به، لذلك علينا عدم الاستسلام مهما كان واقعنا صعب.
في موضع آخر تثير لدينا قصّة «الرازقي» الدجّال الذي يخطّ بقلمه العجائبيّ الشفاء على أجساد المتولّعين بالخرافات، عددًا من الأسئلة المهمّة؛ فهل نحن ندفع لمن يبيعنا الوهم؟! وهل نُشفى بقناعتنا بهذا الوهم؟! وبالتالي، هل الشفاء عمليّة نفسيّة؟! وهل نحن نتعافى بالفعل لمجرّد اعتقادنا أنّنا فعلنا ما يستوجب الشفاء؟! تتضمّن هذه القصّة مغزًى عميقًا وجميلًا، إذ تحذّرنا بشكل غير مباشر، من هذا الصنف من الدجّالين، متجنّبة الوعظ، مكتفية بسرد قصّتهم، تاركةً لنا حرّيّة اتّخاذ القرار الأنسب، إمّا باللجوء إليهم أو بالابتعاد عنهم.
في قصّة «صوت أخضر» نجد مفارقة جميلة حول كيفيّة تعاطينا مع الأحداث من حولنا، والأحكام التي نُصدرها تحت تأثير نظرتنا وفهمنا، والمشاعر التي تختلج في صدورنا؛ فالقصّة تكشف لنا كيف أنّ صوت الطفل الذي ربّما أزعج والده وأرّق أمّه، كان ينبوع حياة لامرأة أخرى لطالما تمنّت أن يصدح في بيتها، واعتبرته تلك الشجرة التي ستحوّل صحراء مشاعرها إلى جنّة وارفة الظلال... لعل الكاتبة أرادت من خلال هذه القصّة الإبداعيّة أن تخبرنا أنّنا بحاجة إلى معرفة قيمة الأشياء التي بين أيدينا قبل أن نفقدها، وذلك من خلال التأمّل في حياة مَن حُرموا منها.
كذلك نجد مغزى عميقًا في قصّة «صورتها» التي تخبرنا أنّ جمال المرأة الحقيقيّ يكمن في رقّة مشاعرها، ومدى اهتمامها بنفسها وبزوجها وأبنائها، وليس في جمال صورتها التي - للأسف - ننساق أحيانًا خلفها من دون أن نعير أيّ اهتمام للجوهر الذي هو الأصل.
رغم وجود هذه الصوَر العميقة والجميلة في عدد من قصص المجموعة، إلّا أنّ بعضها يبدو خاليًا من العمق، وكأنّها ترصد من خلاله وقائع معيشة تؤرّخ لحدث معيّن، كقصصها المتعلقة بجائحة «كورونا»؛ فهل تعمّدت الكاتبة الإتيان بها على هذا النحو حتّى تترك لنا حرّيّة التفاعل معها بالطريقة التي تناسبنا وتحقّق استفادتنا المرجوّة؟ علمًا أنّني لا أميل إلى هذا النوع من القصص، وأرى أنّ المعاني العميقة هي الحكاية الحقيقيّة التي نبحث عنها.
أشير أيضًا إلى أنّ الإغراق في التفاصيل في بعض المواضع، حيث لا حاجة إليها، أضعف القصّة وأبهت وهجها؛ في ظلِّ أنّ من أهمّ صفات القصّة القصيرة الإبداعيّة، الاختزال والتكثيف، وترك القارئ يُكمل استحضار التفاصيل المهمَلة عمدًا، لما في ذلك من تنشيط للعقل وتحفيز للتفكّر، ما يسهم في ترسيخ المعاني في الذهن، وتعلّق القارئ بالحكاية؛ ويعظم هذا الأمر حين يُظهر سياق القصّة أنّ التفاصيل المسرودة، غير مهمّة وليس لها أدنى علاقة بجوهر الحكاية، بل على العكس، يسبّب ذكرها إرهاقًا للقارئ.
نلحظ أيضًا سعي الكاتبة إلى تبرير وبرهنة صحّة القصّة ومنطقيّتها، علمًا أنّها لا تحتاج إلى كلّ هذا الجهد، لا سيّما أنّ النصوص الإبداعيّة في أصلها تخيّلية، لا تحتكم للواقع، ولا تقاس بالعقل والمنطق، بل إنّ جمالها وإبداعها يكمنان في عدم التزامها بالمحدّدات التي تعيق انطلاقتنا، هذا عدا أنّ المنطقيّة تبقى أمرًا نسبيًّا ومتغيّرًا، يرتبط بالزمان والمكان والمتلقّي، فما يُرفَض اليوم قد يصبحُ مقبولًا غدًا ...
من جهة أخرى، ومن وجهة نظر شخصيّة، أرى أنّه كان بإمكان الكاتبة العناية بشكل أكبر بالمفردات المستخدَمة، وبصياغة الجمل، عوض استخدام اللغة المحكيّة البسيطة، دون تكلّف، مع أنّ هذا الأسلوب قد يتناسب مع واقع العصر، لا سيّما أنّ بعض الكُتّاب يميلون بالفعل إلى المزاوجة بين العامّيّة والفصحى، والتبسُّط في السرد، معتبرين أنّ هذا الأسلوب يعطي قيمة إضافيّة للنصوص، ويوافقهم على ذلك بعض النقاد، ما يجعل من «مِس كليوباترا» عملًا يترجّح بين الجمال والبساطة.
** **
- حامد أحمد الشريف