النعومة (smoothness) هي أبرز ما تحتفي به المجتمعات المعاصرة كقيمة جمالية، هذا ما يلاحظه الفيلسوف الألماني ذو الأصل الكوري الجنوبي (بيونغ -تشول هان) في إطار نقده لمجتمع الشفافية. يعد الفيلسوف هان امتداداً لإرث مدرسة فرانكفورت النقدية، حيث تواصل أعماله المنشورة أمثال: (مجتمع الشفافية)، (مجتمع الاحتراق النفسي)، (معاناة إيروس)، (خلاص الجمال) و(السياسة النفسية)؛ استئناف تقاليد المدرسة في نقد التشيؤ، والعقل الأداتي، والنزعة الاستهلاكية، والحرية الوهمية، وغيرها من الثيمات البارزة في ممارسة النظرية النقدية. لكنه وإن بدا متماهياً مع تلك التقاليد، إلا أنه لا ينحو ذلك المنحى الإيديولوجي (الماركسي) الذي نجده لدى بعض أقطاب المدرسة أمثال هربرت ماركوز. وفي الوقت ذاته فإنه ينأى عن المقاربة البرغماتية التي تبناها أمثال (يورغن هابرماس) في نظريته للتواصل. وبالتالي، فإن نقده يمثِّل نوعاً من العودة إلى ما قرَّره (ماكس هوركهايمر) - المؤسس الفعلي للمدرسة - من كون النظرية النقدية تستهدف الواقع عبر تحرير وعي الأفراد ورفع التعارض بين أهدافهم الواعية بذاتها، وبين المجتمع المسير نحو تلبية أهداف الطبقة المسيطرة دون أن يشمل ذلك التزام بمضمون مذهبي محدد، أو نزعة راديكالية للتغيير.
ومجتمع الشفافية عند هان، هو سمة المجتمعات الحديثة، حيث يُمارس التواصل الشفاف عبر الاتصالات والشبكات طمعاً في المزيد من الديمقراطية، والمزيد من الحرية في تداول المعلومات، وكذلك المزيد من كفاءة الإنتاج. ولا مناص - لتحقيق طموحات ذلك المجتمع - من إحداث مطابقة قهرية بين الأفراد من أجل إلغاء كل ما من شأنه تعكير انسيابية التواصل المعلوماتي، ولا سبيل إلى ذلك دون عملية تهيئة وتسوية لكل شيء تهدف إلى التزامن والتنميط والقضاء على كل مقاومة. ولذلك كانت الإيجابية المفرطة هي السمة الأبرز في مجتمع الشفافية، حيث يتم التخلص من جميع السلبيات وعناصر المقاومة داخل النظام، ومن كل ما يقاوم الاندماج، فيغيب لذلك التأمل بوصفه فعلاً مقاوماً، ويختفي كذلك الفضاء الخاص في سبيل العرض الشفاف، وتغدو مفاهيم مثل السرية، والانعزال، والآخرية، عقباتٍ في مجال التواصل، ولذا ما تلبث أن تتفكك باسم الشفافية.
ويواصل هان نقده البارع لمجتمع الشفافية التي تتحول - كما يقول - إلى شفافية قهرية إيجابية لا ترى خارج النظام، ولا تحمل سلبية التشكيك. كما أن الذات في مجتمع الشفافية هي ذات نرجسية، يسودها الاكتئاب بوصفه مرضاً نرجسياً يغيب عنه الآخر (المنقذ)، وهي كذلك ذات توكيدية مسكونة بالإنجاز، قد تحرّرت من العنف الخارجي: (يجب عليك أن تفعل!) لكنها استبدلته بعنف إيجابي محايث: (أنت تستطيع)، وبسببه تفتقر دائماً إلى الإشباع، لأن الإشباع دائماً ما يحتاج إلى طرف ثالث (آخر)، أما (ذات الإنجاز) فلا تنافس إلا نفسها، ولذلك فهي تتلظى داخلياً على الدوام، ولذلك يطلق هان على مجتمع الشفافية اسم: (مجتمع الاحتراق النفسي) فهو مجتمع محترق نفسياً بسبب الاكتئاب وذات الإنجاز، ومشتت ذهنياً بسبب التدفق الواسع للمعلومات، ومنهك عصبيا بسبب فائض إيجابيته.
ونظراً لفيضان هذه الإيجابية وكذلك غياب السلب والآخر، فإن النعومة هي الملمح الأبرز في جماليات مجتمع الشفافية، حيث يبدو كل ناعم جميلاً. وللتمثيل على ذلك، يستشهد هان بمنحوتات (جيف كونز)، وبالأسطح الملساء المدورة الأطراف في تصاميم (الآيفون والجالكسي)، وكذلك في دعايات (الشمع البرازيلي). فمَلِكُ الأسطح الملساء (جيف كونز) كما يقول هان، يكرس فنه لنعومة الأسطح وتأثيرها الفوري على المشاهد، مما يجعل فنه ملائماً لعصر (زر الإعجاب)، لكنه مع ذلك لا يمتلك أية بنية تأويلية، حيث لا يستدعي أي حكم أو تفسير، كما أنه يبدو طفولياً على نحو مقصود، إذ يخلق حالة من الإلزام القهري بالمباشرة واللمس والاستهلاك، حيث تستمر اليد في المرور على السطح الأملس دون الإحساس بنوع من الخشونة المقاومة لمواصلة الحركة، مما يشير إلى افتقاده إلى سلبية الآخر ومقاومته - وهي عنصر أصيل في الجمال - من جهة، وافتقاده إلى وجود مسافة بين الذات والموضوع من جهة أخرى. وبالتالي يفتقر فنه إلى الخبرة الجمالية الناتجة عن التأمل، والتي تأخذ الإنسان من نفسه.
إن فن (جيف كونز) يجعل المتذوق في مواجهة نفسه لا الآخر أو الموضوع. إنه فن ذو نزعة استهلاكية تحض على الامتلاك والمباشرة، لا التمتع الروحي بالتجربة الجمالية. إنه فن نرجسي يُنمط الأشياء، ويسوي بين الاختلافات والنتوءات، ويختفي فيه الآخر. إنه نتاج لمجتمع الشفافية. فالنعومة كما - يقول هان - تلبي حاجة اجتماعية، فما هو ناعم لا يؤذي، ولا يظهر أية مقاومة. إنه متجانس ويبحث عما يتجانس معه. إن قدرة الناعم على التكيف، ومرونته، وغياب أي شكل من أشكال المقاومة فيه، هي أبرز سمة من سمات الجمال المعاصر في مجت مع الشفافية.
** **
- د. علي بن عبد الرحمن النهابي