رقية نبيل
في نظر الكثيرين، قد يكون حديثي تافهًا، ولا محلّ لتدوينه على الورق، لكن بما أنني واحدة من عشاق روايات الكاتبة البوليسية المذهلة أجاثا كريستي - ومثلي الملايين حول هذا العالم الواسع - بما أنني نشأت على رواياتها حرفيًّا، مذ كنتُ أتعلم ألف باء الروايات، وأنا لا أكاد أجاوز العاشرة، وعقلي الصغير يحاول استيعاب المفردات الواسعة الكثيرة المليئة بشتى معاني الحياة فيها، ويحاول تتبع قصصها المتشابكة، وفهم أمور كثيرة بها تتعلق قطعًا بعالم الكبار وأيامهم وصراعاتهم ولا شأن لطفلة بها، لكنني كنت مغرمةً بالقصص وبالتالي وقعتُ في هوى هذه الروايات، وما كان لشيء - بعد إذ اكتشفتُها - أن يردعني عن عشقها ومواصلة قراءتها بنهم!
وبالطبع من أمتع ما صادفتُ في الروايات قاطبة ووسط عالم زاخر بمئات الشخصيات، عشقتُ كثيرًا شخصية المحقق البلجيكي القصير، ذو الشارب المفتول، والمعطف الذي يخلو من أي ذرة غبار، والرأس البيضاوي الأصلع، هركيوا بواورو، شخصية أجاثا الفذة، والتي تفتقت عن ذهنها المحشو حتى آخره بقصص الجريمة والرومانسية والغموض والدراما الهائلة الواقعة خلفها، وحتى اليوم لم يأت كاتبٌ واحدة أو كاتبة بمثل ما أبدع عنه مخزونها من القصص، وإن هذه الفكرة وحدها تذهلني، فهناك مائة كاتب رعب، مائة كاتب رومانسي، مائة كاتب ألغاز وغموض، مائة كاتب فنتازيّ، لكن هناك - قطعًا - أجاثا كريستي واحدة فقط، ويكفي أن نعرف أنها حتى بعد مماتها نقبوا أدراجها وأخرجوا رواية « الجريمة النائمة « التي كانت قد كتبتها ولم تُنشر إلا بعد وفاتها بمدة حين عثروا عليها أخيرًا، وليزيد الأمر غرابةً فقد كانت تلك واحدةً من أنجح رواياتها على الإطلاق!، ولستُ ألومها إلا على رواية الستارة، حيث شوهت كثيرًا من معنى البطل الذي لطالما حملتُه لبوارو.
عودةً لموضوعي التافه الذي كنتُ قد بدأتُ حديثي به، بعدما كبرتُ قليلًا شاهدتُ أخيرًا نسخًا من الأفلام الكثيرة التي قُدمت على الشاشة من روايات كريستي، وكان أشد ما أثار دهشتي، ثم بالغ سخطي، هو شكل الشخصية التي خلعوها على بوارو، ففي كل نسخ الأفلام تقريبًا قُدم بوارو كرجلٍ بدين! قصيرٌ وبدين، وفي هذا مغالطة فادحة للشخصية كما أرادتها ورسمتها وتحدثت عنها مئات المرات أجاثا، أخال أن من حق الكاتب أن تُجسد شخصيته كما خلقها، كما استحدثها خياله ونبتت في رأسه، والرسم الذي أرادته أجاثا لبوارو - والذي أنا ميقنة تماماً منه من خلال الروايات التي قرأتها لها - هو هذا:
أولًا ما ينفي بشدة بدانته هو وصفه دائمًا على أنه رجل ضئيل وضع تحت هذا عشرة خطوط على الأقل، فالبدين لا يمكن أبدًا أن يوصف بالضآلة، وأظن أن أقرب تخيل وضعته أجاثا فيه، هو أنه أقرب لقطة، تصرفًا وشكلًا، قطة ماكرة ذات دهاء وحيلة واسعتين، قطة تلتمع عيناها الخضراوان نشوة كلما وصلت لمرادها، ثم إنه بالطبع قصير القامة، بيضاوي الرأس، أصلع، لكنني دائمًا أتخيله بقبعة ومعطف طويل يزيده ضآلة، ولسبب ما لا استطيع تحديده ولا تغييره قط مهما حاولتُ فكان لون هذين - المعطف والقبعة - دائمًا في خيالي بنفسجيين، بشريط أخضر على القبعة، ولا أدري إن كنتُ قرأته ذات حين في رواية وعلق برأسي أم أن مخيلتي الغريبة قد فرضتهما هكذا عليّ.
وما ينفي تماماً أن يكون بدينًا هي المهارات التي أبداها في أكثر من قصة في تسلق الأشجار والتسلل للغرف تحت جنح الليل وتعقب الِأشخاص والقفز إلى نوافذ بيوت المشتبه بهم بعد تغيبهم عنها.
وهكذا كما ترون فهي مسألة تافهة غير ذات أهمية بالتأكيد اللهم إلا عند محدثتكم فهي - بالنسبة إليها فقط على ما تظن - على قدر هائلٍ وخطير جدًا من الأهمية، إلى درجة أن يثير حنقها ورغبتها في كتابة هذه الكلمات.
بعيدًا عن شكله كانت شخصية بوارو هي الأحب والأقرب إلى قلبي من بين شخصيات محققي الجرائم العديدة، بغرابة أطواره وحرصه على النظام، وتقديسه لشاربه وللخلايا الرمادية في دماغه، وبحبه وإخلاصه الشديدن لصديق عمره الذي يصغره بكثير الكابتن هيستنغز، وكما أسلفتُ ما استطعتُ يومًا مسامحة أجاثا على جعلها منه قاتلًا لمجرم ثم لنفسه في روايتها الأخيرة له « الستارة «، ويبدو أنها هي نفسها لم تحتمل هذه الفكرة، حتى اشترطت على الناشر ألا ترى هذه الرواية النور حتى وفاتها، ولكن بعد إلحاح شديد منه وهو قد نشر لها كل مؤلفاتها وجاوز السبعين واقفت على نشرها في حياتها وماتت بعدها بفترة قصيرة.