د. شاهر النهاري
المطلع على شعر الفصحى في الجزيرة العربية يجد نوعاً من ندرة الإبداع، وهذا ليس قصراً على الشعر، بشمولية ذلك على الثقافة والأدب والفنون المتهيأة لساكني الجزيرة، خلال العقود الماضية، بل وربما القرون، التي أعقبت انتقال عاصمة الدولة الإسلامية من المدينة المنورة، بنقص متضح في المدارس الأدبية، وندرة المبدعين في معظم المجالات، نزولاً عند البيئة البدوية المحلية القاسية، وظروف البعد عن مراكز الحضارة العربية، وأن أغلب ما شهدناه فيها طوال تلك المراحل، ليس إلا بطولات فردية أنتجت بعض المثقفين والأدباء، وممن أتتهم خيوط الفرص بالاحتكاك والسفر والغربة، ونيل معين الثقافة من إحدى الجهات المنيرة ثقافيا، ولذلك ساد هذا الشح، والبعد عن تسيد الثقافة والمواقف العربية، في معظم المجالات.
الشعر السعودي، لم يكن نبراساً يهتدى به، وقد كان بعض الشعراء، يجارون متن من تهيئت لهم الظروف عربياً، ورغم عشق السعوديين للشعر، إلا أنهم ركّزوا أكثر على شعر اللهجة الشعبي بمختلف ألوانه المناطقية، والذي كان حائلاً بينهم وبين الأذن العربية، رغم أنه ساد وتفوق محلياً.
الشاعر محمد الثبيتي، أتى عصامياً في فترة محورية، يندر فيها شعراء الفصحى المحليين، وكان راغباً في نيل قصب السبق بالخروج عن المألوف، فاختار قصيدة الفصحى الحرة، أو التفعيلة، والمعجونة بروح الحداثة، والتي لم تكن مطروقة قبله محلياً، وكانت شحيحة حتى على مستوى العرب بعد ما قدمتها نازك الملائكة للمكتبة والفكر العربي، فكانت تلك ميزة أعطته الكثير من التميز، كما أن الرفض الديني لنهجه الحداثي قد ظهر مصاحبا للصحوة، ومؤيدا بما كتب وحيك ضده منهجيا وعقائديا وتأويليا، مما أعطاه قوة إضافية، وموقفا فكريا، وجعل المثقفين المتوافقين معه يقفون في صفه ظالماً أو مظلوماً.
وعلى ذلك ظلت أشعاره ديوانية، تكتب وتقرأ للنخبة، وتدور في المخيلات بتفسيرات وتخمينات وتخيلات تدور وسط الأبراج العالية، وتنزل عروساً مميزة في الديوانيات، ولكن حتى من يسمعون قصائدها، من المثقفين ويثنون عليها، سرعان ما ينسون متنها وأفكار محتواها، على عكس قصائد عمودية وحرة لشعراء عرب صاحبوا تلك الفترة، وكانت قصائدهم أكثر قبولاً عند محبي الشعر ودارسيه، بل إن الملحنين والمغنيين لم يلبثوا أن تبنوا كثير منها، وقدموها في ألحان بلغت أذان وقلوب العرب، ولا تزال معانيها تعيش بأنغامها وجمالياتها بيننا، وبما فيها من سهولة ممتنعة وبيان، وقدرة على تحريك اللحن، والرسوخ في وجدان الإنسان العربي، الذي يعشق القصائد الجميلة، ببحورها وعروضها وقافيتها، بينما بقيت قصائد الثبيتي مختلفة الوقع والصدى.
وقد قوبل الثبيتي كشاعر مبدع بحفاوة من قبل مثقفي السعودية ضمن متطلبات الحرب بين الصحوة ورافضيها، كما احتفى به كثير من مثقفي العرب بعد تسميته بسيد البيد، وكتبت في أشعاره دراسات جامعية متعددة، ساد كثير منها المجاملات والإكبار لتخطي الشاعر لصعوبة بيئته وظروفه، التي تخطاها، وقد شهد ذلك مبالغات حملت أصحابها إلى مقولة أن مثل هذا الشاعر لا يتكرر، إلا كل ألف سنة!
أنا هنا لا أحاول التقليل من قدرة شاعر مجيد راحل أحترمه، ولكن المبالغات كانت واضحة في تأصيل ووصف ونقد أعماله، من قبل من فهموها بوجهات أنظارهم ومفاهيمهم الأيدلوجية، أو من حملوها بأمنياتهم الوطنية، وبالغوا في سحرهم بأناقة الفكرة الحرة، والتفعيلة، ولكنهم بالعموم ظلوا يعجزون عن تأكيد دلالات عمق المعاني، وقدرة نزولها عن الأبراج، والوصول إلى الشارع العربي بقصيدة يسهر الناس جراها ويختصموا.
كثير ممن تكلموا عن شعر الثبيتي، كانوا عربا يحتفون بصوت سعودي نادر في بيئته، وكثير منهم يعلم أن المنتديات، والنوادي الأدبية والجامعات السعودية ستفتح لهم منابرها بمجرد دراسة بعض أعماله، وتحميلها بما لم يكن في عقل الشاعر حينما كان يصوغ أبياته.
وكمثال على قصائده: الحب في الصحراء:
كنَّا نعيشُ الحبَّ في الصحراءْ
وحْيٌ من السماءْ
رسالةٌ فِطريَّةٌ
أنشودةٌ عذراءْ
لا نعرفُ الرسائل الملوّنةْ
والكلمات الحلوة المدوّنةْ
لا نعرف النفاقْ
ولم نمارس اللهو بتهريب العواطفِ
فالحبُّ عندنا انطلاقْ
والعشقُ عندنا انتماءْ
كموسمِ الرحيلْ
كنسمةِ الصباحِ، كالأصيلْ
كالماء، كالهواءْ.
قصيدة خفيفة بديعة لا شك، ولكن أين الإعجاز فيها، وأين المعاني المنهجية غير المطروقة فيها، وأين البناء الساحر، الذي لا يبارى، وأين القصيدة عن أذن وحافظة وقلب البدوي، والعربي من عشاق الشعر؟
وقصيدته متَى ترحلُ القافلةْ؟:
سترحلُ توّاً
فَهَيِّئ لنفسكَ زادَكَ والرِّاحلَةْ
متَى ترحلُ القافلةْ؟
غداً رُبَّما
رُبَّما القابلةْ
وقد تتأخَّرُ يوماً
ويوماً
وشهراً
إلى أنْ تُضِيء لَهَا لحظةٌ عَاقِلَةْ
متَى ترحلُ القافِلَةْ؟
لقد نامَتِ القَافلَةْ.
فنجد هنا صور ا بديعة للحديث عن الرحيل الأخير، وربما الرمز عن التخلف، والانكفاء في مشاعر التيه، والقريبة من نبض غفوة الصحراء، وهمومها وأحلامها، وحسراتها، وطموحاتها المغبرة، ولكنها تظل مفهومات غموض ناقصة، تترك الكثير من جهود الفهم على عقل ونفسية وثقافة القارئ الحداثي، لتخيل ما يجول في عقول وقلوب البدو، والحضر العرب، ومما يصعب رسوخه، أو إشعال الرغبة لدى المتلقي بالعودة للتبين، والفحص وتعميق الفهم.
وقصيدته بصمات نازفة:
أحبّكِ رغم جنونِ الجراحْ
ورغم جفاف الدروبِ
ورغم الخطوبِ
ورغم انتحار المنى، واحتضار الصباحْ
أحبّكِ حينَ يموتُ الربيعُ
وحين يزول الرحيقُ
ويذوي البريقُ
وحين تثور الليالي وتقسو الرياحْ
أحبّك وجه الحياة الكئيبِ
وطعم الكفاح المريرِ
ووهج الهجيرِ
أحبّك لون الدماء وصوت السلاحْ.
وهنا أيضاً تكثيف للرمز، يزيد من عتمة وجدلية الصورة، ولعلي أترك للقارئ الفطين الحكم، ودون مبالغة أو تقزيم، ودون تقول على أعين الحقيقة.
وأخيراً قصيدته الرائعة تغريبة القوافل والمطر:
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
صُبَّ لنَا وطناً فِي الكُؤُوسْ
يُدِيرُ الرُّؤُوسْ
وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
واسْفَحْ علَى قِلَلِ القَومِ قَهْوتَكَ المُرَّةَ
المُسْتَطَابَةْ
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ مَمْزُوجَةً بِاللَّظَى
وقَلِّبْ مواجعنَا فوقَ جَمْرِ الغَضَا
ثُمَّ هَاتِ الرَّبَابَةَ.
وحتى بلوغه للبيت:
أَيَا كاهنَ الحيِّ
أَسْرَتْ بِنَا العِيسُ وانْطَفَأَتْ لُغةُ المُدْلجينَ.
وهي من أجمل قصائده، وكنت عبارة «كاهن الحي» حاضرة بطعم الأيدلوجيا الغامضة، التي توقف عندها كثير من الرافضين لها دينيا، ولكن ورغم جماليا الوصف والشاعرية في هذه القصيدة، إلا أني أجدها ممتنعة على حافظة العربي، لا تمتلك القرب، ولا قدرة وضعها في لحن يديم معانيها، إلا عن طريق مجاملة من مطرب يتشبث بإيوان برج عاجي.
والخلاصة أن الفكرة والندرة والفرصة بوجود الحرب الأيدلوجية، خلقت للشاعر الثبيتي -رحمه الله- والحامل لبيرق الطيف الفكري السعودي مكانة مخصصة، ولكنها بالتمعن تعجز عن إثبات قمة الإبداع المنقطع النظير، فلو نظرنا عربيا في أقران الثبيتي مرحلياً لوجدنا نزار قباني، أمل دنقل، أودنيس، وأحمد مطر، وبدر شاكر السياب، محمود درويش، وغيرهم من الأفذاذ الذين صنعوا التفرد بشعر التفعيلة، وتركوا جميل الأثر في أنفس وحافظة الشارع العربي، وممن مجدت أعمالهم، ولكنهم لم يوصفوا بندرة الألف سنة، إلا لو تكلمنا بمنطق المحلية الضيقة.