د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ويمكن القول إن هذه الحاجات تتمثل بأنها لون من التشفي بالسلطة بوصفها نوعاً من السخرية الممضة، كما أنها أيضاً تمكن المشاهد، إذا كان ذا مواقف سابقة، من التنفيس عما أصابه من غضب وهم، وحزن بسبب تلك المواقف عن طريق التماهي بشخصية غوار العابثة المستهترة، وشخصية أبو عنتر التي لا تراعي الأنظمة ولا تلتزم بأوامر الشرطة وقرارتها، وتحقق ما تريد تحقيقه بالقسوة والعنف والقبضة.
والأمر المؤكد، أن هاتين الشخصيتين يلقيان رواجاً لدى المشاهدين، ومع ذلك فإن شخصية غوار ليست ذات انتشار في الدراما السورية مثل شخصية أبو عنتر التي يمكن القول إنها تتكرر في المسلسلات التي تصور الحقبة التاريخية من القرن العشرين إلى نهاية النصف الأول، من تاريخ المجتمع السوري، ويحتل فيها (الأبضاي) دوراً محورياً.
ربما في تلك الحقبة مع عدم وجود مؤسسات أمنية مركزية، وقوية، في جميع الحارات والمناطق، يمثل (الأبضاي) شخصية مقبولة على أقل تقدير بوصفه واحداً من القوى الاجتماعية التي تحافظ على الأمن أو النظام، ويمثل هو مصدره، وبحسب شخصيته يكون مقدار قربه من الحق أو الباطل.
لكنه بعد ذلك أصبح شخصية فائضة عن الحاجة خاصة أنه لا يتمتع بشيء إلا قدرته على نفاذ أمره على الناس باستخدام قوته التي لم يعد مخولاً لاستعمالها، وهذا ما يجعله بحاجة إلى إثبات وجوده في مقابل السلطة التي سحبت منه هذا الحق، وهذه الميزة، ما يجعله أمام أمرين: إما الانصياع للسلطة النظامية وتحوله إلى شخص عادي لا يملك أدنى ميزة تميزه عن الآخرين، أو السعي إلى الاحتفاظ بسلطته الأولى، وهو ما يجعله خارج القانون.
هناك حالة ثالثة لهؤلاء «الأبضاويين» (جمع أبضاي)، وهي أن يندمجوا في السلطة بحيث يتولون هم تطبيق القانون بموافقة الأنظمة وتحت أعينها، وهذا يحدث عادة في بداية نشأة السلطة، والتحول من الأنظمة التقليدية إلى الأنظمة المدنية الحديثة.
لا أريد أن أتعمق في التحليل السياسي-الاجتماعي لهذه الدراما، والمهم أن هذه الشخصية بوصفها شخصية محورية في المجتمع السوري القديم، تلقى مكانة واضحة في الدراما التي تصور تلك الحقبة، بالرغم من وجود سلطة نظامية كالتي تسمى «الدرك» سواء كانت هذه السلطة تنتمي إلى الدولة العثمانية أو الحكومة الفرنسية، ما يعني أن وجود هذه الشخصية يتجاوز الحاجة الأمنية إلى أسباب شخصية، وأصبحت تتوافر في هذه المسلسلات على أكثر من وجه؛ الوجه الشرير والخير، وأحياناً تنتشر صفاتها في أكثر من شخصية دون أن تكون هناك شخصية واحدة يمكن أن توصف بالأباضوية.
وهنا يصبح حضورها في الدراما السورية ذا أكثر من سبب؛ الأول أنها جزء من تصوير الحقبة التاريخية التي تتمثلها المسلسلات، والثاني يعود إلى ما تلقى هذه الشخصية من رواج لدى المشاهدين يعزز من مشاهدة المسلسلات ورواجها.
غير أن هذا الحضور، وهذه الجاذبية ليست خلوا من الضريبة، فإن مقبولية الشخصية تنعكس على المشاهدين، فتتجاوز التسلية والإضحاك، أو الدهشة إلى أن تنفذ إلى وعي المشاهد فتصبح جزءاً من تكوينه أو عاداته اليومية، وهذا ما يؤدي إلى تحول الشخصية من جزء من التاريخ إلى شيء مكون للشخصية السورية بوجه عام.
هناك أقوال حول أثر أفلام هوليود في انتشار العنف لدى الناشئة من خلال المحاكاة، وهي أقوال تلقى رواجاً عند كثير من الدارسين والمحللين، ويبدو أننا أمام نفس الظاهرة، فهذه الآثار نفسها تنعكس على الشخصية السورية، فتصبح الشخصية (الأبضاوية) شخصية نموذجية لدى الشباب، بمعنى الشخصية العنيفة، الصاخبة التي تأخذ حقها بقبضتها دون اعتبار للقيم أو القوانين، أو الأعراف والاعتبارات.
هناك ظواهر كثيرة قابلتها اجتماعية توحي بهذا الأثر، أو على أقل تقدير لا يظهر لي السبب وراءه أكثر من التأثر بالشخصية (الأبضاوية) بالدراما السورية، فأذكر مرة وأنا في كلية اللغات في لندن، كان يدرسنا رجل إنجليزي، وكان بين الفينة والأخرى يسألني سؤالاً عن الثقافة العربية أو الإسلامية نوعاً من إظهار التقدير والتبجيل، أو الإيحاء للطلاب بأنه يقدر الأساتذة حتى لو لم يكونوا إنجليزاً.
وقد دأبنا على هذا مدة، وفي إحدى المرات، انضم إلى القاعة شاب سوري، لا أستطيع أن أصفه بأكثر من أنه يريد أن يكون (أبضاي)، ولأنه حديث عهد في انضمام لم يدر بيننا حديث، فسألني الأستاذ على عادته سؤالاً يتصل بالثقافة العربية، فما إن هممت بالحديث إلا والفتى (الأبضاي) يتولى الإجابة، فتعجب منه المدرس، وقال: شكراً أريد الإجابة من فلان، ثم أردف قائلاً ألست أستاذاً في الأدب، فقلت: نعم، فقال: الشاب السوري: وإن.. أنا أعرف الجواب. فزاد استغراب المدرس من التصرف والرد، فالسؤال ليس سؤالاً في موضوع الدرس حتى يرغب في أن يظهر نجابة وتبريزاً وإنما هو خارج الدرس، فألح المدرس على أن أجيب، وألح الطالب أن جوابه صحيح وأنه لا حاجة لسؤالي أصلاً. وبين هذين الإلحاحين قلت: نعم، جواب الطالب صحيح، هو كذا. صحيح أن السؤال كان سهلاً والناس يعرفونه كما قال الأبضاي، ولكن يبدو أن المدرس الإنجليزي رغب أن يأخذ الإجابة من متخصص في الثقافة العربية عوضاً عن أن يأخذه من عامل شاورما في أحد مطاعم لندن.
تكررت هذه الحوادث أكثر من مرة حتى أنني اضطررت أن انتقل إلى قاعة أخرى، ولم أرغب أن أدخل معه في مشادة داخل القاعة وأقول له ما دخلك، وبأي حق تتكلم نيابة عني في حين أن السؤال في الأصل موجهاً إلي حتى لا يقول الطلاب وهم من جنسيات مختلفة، هذان العربيان لم يتمكنا من أن يجلسا معاً في قاعة واحدة أكثر من نصف ساعة حتى تشاجرا.