د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
المصحف اسم أخذ من الصُحُف، جاء في معجم (العين) «وسُمِّيَ المُصْحَفُ مُصْحَفًا لأنَّه أُصْحِفَ، أي جُعِلَ جامعًا للصُحُف المكتوبة بين الدَّفَّتَيْن»(1).
ولا أحسب الفعل الوارد في نص الخليل (أُصْحِفَ) مستعملًا، بل دلّ عليه (مُصْحَف) على بناء مُفْعَل، وهو مشترك لفظي يدل على اسم المفعول من الفعل (أَفْعَل) والمصدر الميمي واسم الزمان واسم المكان. ولذلك لا تجد الفعل (أصحف) إلا في سياق تفسير الاسم (المصحف).
والاشتقاق من الأعيان أمر عرفته العربية؛ إذ نجد (استنوق) من الناقة و(استنسر) من النسر، وليست هذه الأفعال مزيدة على أفعال مجردة مثل استخرج وخرج.
والمشهور انطلاق اسم (المصحف) على القرآن المكتوب في صحف مجموعة، قال العسكري «وَأكْثر مَا يُقَال الْمُصْحَف لمصحف الْقُرْآن»(2)، قال النيسابوري «وروي أن أبا بكر الصديق استشار الناس بعد جمع القرآن في اسمه فسمّاه مُصْحَفًا»(3). وقال القلقشندي «أوّل من سمّى المصحف مصحفًا أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه حين جمع القرآن»(4).
وليس ببعيد كون المصحف معروفًا قبل هذا، جاء في (شرح أصول البزدوي): «وَالْمُصْحَفُ حَقِيقَتُهُ مَجْمَعُ الصُّحُفِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى تَصَوُّرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ كَانَتْ ثَابِتَةً لَهُمْ قَبْلَ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ بَلْ قَبْلَ إنْزَالِ الْقُرْآنِ؛ وَلِكَوْنِ مَعْنَاهُ مَعْلُومًا سَمَّوْهُ مُصْحَفًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَفَرِّقًا فِي صَحَائِفَ أَوَّلًا فَجَمَعُوهُ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَسَمَّوْهُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى غَيْرُهُ بِهَذَا الِاسْمِ إذَا وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْت دَفَاتِرَ مِنْ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا الْمُصْحَفُ الْأَوَّلُ الْمُصْحَفُ الثَّانِي»(5).
فالمصحف إذن معرّف تعريفًا جنسيًّا، ثم جعل علمًا بالغلبة على القرآن المكتوب في صحف مجموعة، قال عباس حسن عن العلم بالغلبة «غير أن فردًا واحدًا من أفراد المعرّف «بأل» أو المضاف قد يشتهر اشتهارًا بالغًا دون غيره من باقي الأفراد؛ فلا يخطر على البال سواه عند الذكر؛ بسبب شهرته التي غطت على الأفراد الأخرى، وحجبت الذهن عنها»(6). قال «ومن أمثلة ذلك: المصحف، الرسول، السنّة...؛ فالمراد اليوم من المصحف: كتاب الله وقرآنه الكريم ... ومن الرسول: النبي محمد عليه السلام، ومن السنة: ما ثبت عنه من قول، أو فعل، أو تقرير ... وكانت تلك الكلمات في الأصل قبل اشتهارها، معرفة؛ لاشتمالها على نوع من التعريف، ولكنها لا تبلغ فيه درجة العَلَم الشخصيّ؛ إذ ليست أعلامًا شخصية. فلا تدل على واحد بعينه؛ إذ الأصل في كلمة: (المصحف) أن تنطبق على كل غلاف يحوي صحفًا. وفي كلمة: (الرسول) أن تنطبق على كل إنسان أرسِل من جهة إلى جهة معينة. وفي كلمة: (السنة) أن تنطبق على كل طريقة مرسومة»(7).
و(المصحف) وإن كان على هيأة اسم المفعول اسم جامد لا يوصف به ولا يعمل عمل الفعل، قال صلاح الزعبلاوي «أما (المصحف) فقد اطّرد جمعه على (المصاحف)، لا جمع له سواه. وليس هو اسم مفعول، ولو رُدّ إلى هذا الأصل. ذلك أن النحاة قد ذكروا أسماء حكوها عن العرب، قالوا إنها ليست جارية على الفعل، على حد أحد من المشتقات. ونقلوا من ذلك (المُدْهُن) بضم الميم والهاء لأداة الدهن وقارورته التي يوضع فيها»(8). ونقل قول سيبويه «وكل هذه الأبنية تقع اسمًا للتي ذكرنا من هذه الفصول، لا لمصدر ولا لموضع العمل»(9). ونقل قول سيبويه «ويكون على مُفْعَلٍ، نحو: مُصْحَفٍ، ومُخْدَعٍ، ومُوسى. ولم يكثر هذا في كلامهم اسمًا، وهو في الوصف كثير. والصفة قولهم: مُكْرَمٌ، ومُدْخَلٌ، ومُعْطًى»(10).
وختم بقوله «ويتبين بما تقدم أن (المُصْحَف) اسم أفرد عن المشتقات»(11). أي اسم جامد.
ومما يستأنس به أنّه جاء على لغات: المُصْحَف، والمِصْحَف، والمَصْحَف(12). قال محمد بن عمر الأصبهاني المديني «والمُصْحَف - بالضمّ - مُفعَل من الصُّحُف؛ أي جُعِلت فيه الصُّحُف، وبفتح الميم: مَوْضِع الصُّحُف، وبالكَسْرِ: آلةُ الصُّحُف»(13).
وقوله هذا تفسير للأبنية؛ ولكن ذلك لا يعني عندي اشتقاق اللفظ، بل تعدد لغاته من غير قصد لتلك المعاني؛ فالمضموم والمفتوح والمكسور شيء واحد، وهو جملة الصحف بين دفتين.
** **
(1) الخليل، العين، 3: 120.
(2) أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ص: 291.
(3) النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، 1: 29.
(4) القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، 1: 489.
(5) عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي، كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، 1: 22.
(6) عباس حسن، النحو الوافي، 1: 433.
(7) عباس حسن، النحو الوافي، 1: 434.
(8) الزعبلاوي، دراسات في النحو (ص: 326، بترقيم الشاملة آليا).
(9) سيبويه، الكتاب، 4: 92.
(10) سيبويه، الكتاب، 4: 272.
(11) الزعبلاوي، دراسات في النحو (ص: 327، بترقيم الشاملة آليا).
(12) ينظر: عمدة الكتاب لأبي جعفر النحاس، ص: 122، إكمال الإعلام بتثليث الكلام لابن مالك، 1: 15، تحرير ألفاظ التنبيه، ص: 34، التكملة والذيل والصلة للصغاني، 4: 510.
(13) محمد بن عمر الأصبهاني المديني، المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث، 2: 254.