جابر بن محمد مدخلي
نحت البروفيسور العربي التونسي علي بن عبدالعزيز الشبعان في مشروعه العملاق فكرًا، والضخم مُجلدًا والذي أقامه على أركان فكرية وأدوات مجهرية ومفصلية ومبطنية وظاهرية منحوتًا عربيًا هامًا وليس تونسيًا خاصًا -فحسب- حيث إنه حوّل الفكرة الأساس «للأرجانون - الأرغانون» إلى آليات مستقاة من (النمط) أو من عدة أنماط هدفها الأساس حركة تجديدية وتأثيث فكري أو أثاث ذهني استصدره من واقعية حتمية كان ينبغي على جهات تشريعية أو فكرية نهضوية سلمية اتزانية ليست طرفًا منحرفًا ولا متغولًا ولا ثعبانيًا سامًا، ولا حرباء بيد قانون الغاب العميق.. طرف همه دفاعي وانتصاري وتشريعي يسن قوانين فكرية جمعية لا عقدية تزعمية أو جماهيرية عنصرية أن تقوم بمنح هكذا مشاريع دعائم ودعم مستمر.
برأيي لقد جاء الشبعان متجددًا وحذقًا -بذات التوقيت- حيث أنه صهر النقد بجميع عناصره وأنواعه: الثقافي، والأدبي، والاجتماعي، والذاتي، الموضوعي -كل النقد- القديم وذوّبه -ولم يستغن عنه- وإنما أعاد بناءه وتشكيله وفق مرئيات تصالحية واقعية نهضوية لغد حال علينا لا محالة وكأني به يستبق المنهج الفكري العربي باستقراء تنبؤي تحليلي لما يجب أن نكون عليه أو يحل بنا.
أكبر وأهم ميزة في هذا المشروع أنه تفصيلي واضح ومنهج خرائطي غير معقد ولا مُهوّل ولا مُضخِم للمستقبل.. بل ميسر لنقد حركي ومتفاعل مع طبيعة المصطلحات المتصالحة مع بعضها أو المتعاضدة أو المنحسرة أو المُنتظرة لفرصة مناسبة للطفو على سطح العقل العربي بشكل خاص، والإنساني بشكل عام.
المفاهيم التي تعاضدت حتى كونت مشروع الشبعان هي معظم ما كانت لدينا وانقرضت ثم عادت ولم تعد تشكل لدينا ذلك الهاجس القديم.
الأفكار التي غذى بها الشبعان شواهده وأمثلته هي التي بإمكانها تقوية حلقات كثيرة في واقعنا: حلقات ذهنية، نفسية، اجتماعية، وإبداعية.
الرؤى متجددة وطامحة لأن ترى الغد كما لو أنه ولد بين يدي المؤلف وأنه يراه عيانًا بيانًا كلوحة رسمها رسام في الظلام مكتملة المعالم لكنه في انتظار شروق الشمس ليريها لآخرين.. هكذا -برأيي- تعامل المشروع مع الرؤى المستقبلية.
ففي كتابه الأول: « الهاوية - اعتراك الحقائق واحتراب الحجج» يستميل الجوانب الثقافية والإسلامية بأسلوب تفسيري تمثيلي قرآني باستنادات علمية هي أهم أركان ورؤى وخلاصات التراث العربي والإسلامي ومن هنا يمكننا العودة بيقين تام بعد مقرؤية واثقة أن المصدر ليس خام فحسب بل مصدر يقيني ولكن بفلسفة ذهنية اتسعت لاستقراء تجديدي يزيل تعطيل الفكر في جوانب كان يجب أن تكون فيها نورانية مستنيرة لا ضبابية تهميشية أو إقصائية أو تشددية.
لقد علمتني قراءة السنوات الماضية بأن من كان مصدره القرآن الكريم -الكتاب الوحيد والأبقى والمصون والمحمي من الله- فإن علمه يؤخذ باجتهاداته فإن أصابت هذه الاجتهادات فلصاحبها أجرين. وإن أخطأت فله أجر واحد يزيد ولا ينقص. وهذا الكتاب من هذا المشروع مصدره (القرآن) وعن يقين تام قرأته في شهر رمضان وكان خير أنيس وحظيت معه بمتعة خالدة.
بقول الشبعان في جزء من كتابه -الهاوية- «تحتكم، التّشكيلات الاِجتماعيّة، حسب علماء الاِجتماع، إلى فاعلين اِجتماعيّين، يصنعون، رأسمالها الرّمزيّ الّذي من شأنه، أن، يحفظ، ذاكرتَها، ويكتب، تاريخَها. وقد اِضطلع، المفسّرون: العرب، و المسلمون، باعتبارهم، (أعوانا وسائطيّين)، و(فاعلين اِجتماعيّين)، اِتسمت، شخصيّاتهم، بالوجاهة: الاِجتماعيّة، و العلميّة، والدّينيّة، لذلك، فوّضهم، (قادة الأمّة)، بمفعول التّرشيح، و الاِصطفاء، للقول، في (كلام الله)، قولا، يجلّي، مستغلقَه، و يفصّح، مكتَّمات رموزه، حتّى، يصير، خطابا متاحا، يفهمه، المسلمُ، وغيره، يعتقد، في قداسته، و يعمل، بهادياته.»
وهذا مقطع واحد أخاذ من مقاطع أخرى أكثر تأثيرًا وتبيانًا لما حدث وعرفناه أو حدث ولم يصلنا، أو حدث وما عرفناه بعد...
وأما كتبه الأخرى التكميلية لمشروعه العظيم هذا فهي على التسلسل الآت:
الكتاب الثاني: «كتاب البرهان - مُطارحاتٌ في الحِجاجيّة التّأويليّة: من تقنيّات الجَدل، إلى إيطيقا الاِختلاف ( القضايا، و التّحوّلات) وهذا الجزء وما تلاه تتمام لهذا المشروع الذي أصفه بالتماسك.. والذي جعلني أبلغ هذا الوصف له هو ما كتبه (الشبعان) كتبيان في مقدمة كتابه -البرهان- حين قال عن «الأرغانون الجديد» إنّ، هذا المشروع الفكريّ، إنّما، يرمي، إلى الاِنتقال، من توصيف الظّاهرات المعرفيّة المدروسة، في الثّقافة العربيّة المؤسلمة: (( الظّاهرات الجماليّة)، (الظّاهرات الثّقافيّة)، (الظّاهرات الحِجاجيّة)،(الظّاهرات الفلسفيّة)،(الظّاهرات العقائديّة)، (الظّاهرات الدّينيّة...))،إلى البحث، في خفايا التّوصيف، و أسرار التّصانيف، من خلال، (رؤية فكريّة)، لا يَضيرها، فضحُ المكتَّم،أو كشف المؤثَّم الّذي رسمته، إراداتُ الفاعلين الاِجتماعيّين، يَحفظ، مصالحَهم،و يُديم، نفوذَهم.»
إذن وبكل تأكيد نحن أمام مشروع كان ينبغي له أن يكون -من وجهة نظري- مشروع مؤسساتي ولكن قام به فرد وحيد معتمدًا على كتاب ربه القويم وكل عالم ومفكر نزيه لم تغره شهوة الحياة ولا ثمارها المغدقة آناء تفسيره لآيات قرآن كريم نزل من لدن حكيم خبير على خير خلق الله رسولنا الكريم هو الصالح والأصلح والأبقى والأخلد.
وفي كتابه الثالث : «الدوق - حفريّاتٌ في الإنشائيّة العربيّة - مداخلُ نظريّةٌ، و تطبيقاتٌ عمليّةٌ «
يربطنا «الشبعان» واقعيًا مع نظريات النقد الحديثة ومناهجه وفيه ستستمتع بعدة أساليب قرائية تبسيطية لهذا المنهج الذي أبى إلا أن يُجهد كل جيل قدِم لدراسته ذلك أن المؤلف ربطنا فيه بمحاضراته التي جاءت كخلاصة لطلبة العلم الذين تكونوا أمامه طوال عقد من الزمان ودخلوا عليه وخرجوا من عنده مثنى وثلاث وكلهم تغافلوا عن هذا المنهج النظري التطبيقي -ووحده- من ظل متمسكًا بتطوير كل ما ألقاه عليهم وإعادته في كل جيل جديد يفد عليه بما يتناسب مع ذهنيتهم الحالية التي هم عليها متماشيًا مع ما يطور أدواتهم الناقدة ويراعي الفروق الكبرى بين جيل ورقي مضى وجيل الكتروني حالي. مستعيدًا في كتابه بين فينات وأخرى ما يجعله كمشروع مترابط لا يخذل كتاب منه كتابه السابق ولا اللاحق.
وفي كتابه الرابع: الوجد - الْبَلاَغَةُ الْآثِمَةُ»، و مِيلاَدُ «الْعَقْلِ الْمُنْشَقِّ»
((تُرْجُمَانُ الْأَشْوَاقِ)، لِـ(مُحْيِي الدّينِ، بنِ عَرَبيّ-أُنْمُوذَجًا))من» بلاغة البيان»، إلى» بلاغة العِرفان»
وفي كتابه العذب هذا ستجلس أمام قلبك المفتوح وسترى كيف أنك لم تشعر بمخازن المشاعر المزدحمة به والمتراكمة داخله في انتظارك أن تناديها أو تستحثها لتجيب نداءاتك وتلاواتك وصلواتك. ستكون أمام مدرسة وبلاغة الْعشق الصّوفـيّ؛ لا سيما وأن «الشبعان» قد جعل «ترجمان الأشواق»لا بن عربي أنموذجه الذي سيقيم على أرضيته مختبره التحليلي والاستقرائي.
يقول فيه مستفتحًا : «حاولنا، أن نقف، فيه، على أجلى القوانين البنيويّة، والأغراضيّة، والأنطولوجيّة الّتي كانت، تحرّك، حدث الكتابة، و تشغّل، نظامها، فتبيّن، لنا -بعد الاِستحصال، و التبصّر-، أنّ، نظام هذه الكتابة، في (ترجمان الأشواق)، إنّما، هو، نظامٌ مخصوصٌ، يلجأ، فيه، روّاده، و اللاّهجون، به، إلى الاِنشقاق، عن بلاغة (الوضوح)، و (البيان)، و الجنوح، إلى بلاغة (الإخفاء)، و (العرفان)، سياسةً، بها، تنقاد، مقاصدُهم،و إستراتيجيا، من خلالها، تُبنى، عوالمُ إنشائِهم...»
وهذا الجزء برأيي رحلة للروح ونزهة للقلب وفسحة للصدر أكثر من كونه كتاب موروق ومسطور. تستعيد معه حالة التجلي والتخلي عن قواسم الحياة الخالية إلا النظر والعِبر والامتداد البصري في أصقاع الذات وتحليلها الروحاني العميق الفاحص لذوات تصوفت كمنهج تعبدي تزهدي تنزهي تعاضدي بين الروح العميقة التي لا تبلغها إلا بترحال نزيه. وقد مضى بنا الشبعان لتفصيل جوانب تصوفية حسب أدواتي ومرئياتي البسيطة لم يسبقه إليها أحد.
وأما كتابه الرابع: التوحش في نقد الأصوليات الفكرية وتمركزات العقل المستقبل» يوقفنا أمام كتاب يشرح فكر واستراتيجية تنظيم قاعدة الجهاد، الكتاب عبارة عن مجموع مقالات ناجي في منتدى أنا المسلم، تزامن صدور الكتاب مع التحولات الإستراتيجية التي شهدتها الحركة السلفية الجهادية وذلك بالتحول من مقاتلة العدو القريب المتمثل بالنظم السياسية العربية والإسلامية التي تنعتها بالمرتدة إلى مقاتلة العدو البعيد المتمثل بالغرب عموماً والولايات المتحدة الأميركية - التي تنعتها بـ «رأس الأفعى» - وإسرائيل على وجه الخصوص.
وفي كتابه التوحش أو ما أطلق عليه كتوطئة جانبية بـ»المرايا المهشّمة في نقد الأصوليات الفكرية و تمركزات العقل المستقيل» فقبل عبورك للصفحات الأولى ستجد من هم في انتظارك لإعادة التوازن الذهني إليك، أو تعقيل غير المعقول أمام فهمك الذي أمضى من عمره قبل اقترانك بهذا الفِكر الذي جاء ليحلل لك عصبة المغتالين للدين، وأتباع الغلو الذين ينزفون من شهوات الناس في سرّهم حتى يسدون رغائبهم، وأمانيهم وحوائجهم ليبرزوا للناس كشفعاء، ونزهاء، وبسطاء. فإن رأيتهم تُرهق نفسك لأجلهم، وأنّهم ودّعوا الدنيا ومضوا إلى رحلةِ الآخرة منذ إعلانهم الطلاق البائن للحياة بزخرفها وزهوها، وجمالياتها.
ويسبق ظاهرة المُغالين في دينهم ودنياهم وتفاصيل الذين اعتنقوا تفاصيل تعنيهم وأرادوا رصد الناس عليها، وصناعة الأثر لهم حذو الكعب بالكعب، والمنكب بالمنكب.. إن ملخصًا استنهاضيًا ونهضويًا وتحليلًا استرحامًا بما وصل إليه هؤلاء المغالين لتجده أمام عينيك في هذا المشروع الحديث الذي يعيدنا لمنهجية السِلم القرآني، وتعاضده مع بساطة الدين، وسماحته، ومنهجيته الوعضية الواسطة لا الضاربة للأعناق على مقاصل الهلاك، أو الإجحاف الذي استرسل فيه المتنطعون طوال عقودهم الدالفة. إنّ رحلة الشبعان لا أشكّ في معاناتها التأليفية والتمحيصية المُتقنة المستمدة من مرجعية مصداقية لا تخييلية ذاتية أو تهجّمية هدفها الترصد والاسترفاد فحسب، أو الرصد لنواتج التعنيف الإنساني الذي امتصّ حماس البشرية تجاه دينهم الحنيف، وصلاتهم الأرضية بسماء ربٍ سقاهم الرحمة واستسقوا منه العفو والرضا والتسامح بأقل الأعمال الواجبة وأخلصها وأتقاها. ما يجعلك تهفو إلى تنمية إيمانياتك باشتغالات الشبعان أنّ الغلو الذي أوقظه لم يبعد عن توصيات قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) [سورة المائدة : الآية 77]، وإن عاد المؤلف العميق فِكر إلى قول البشر فلن يمضي أبعد مما أوضحه واستأمنه فينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُحذرنا ويحاذر من الغلو والتنطع؛ حين قال: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ» وأمام استظهارات الشبعان وتخليصه للانغماس الروحاني بالفكر التشددي نجد أننا أمام ما يستوعبنا ويصلح لنا ولأجيالنا الحاضرة بلغةٍ سلسةٍ قادرةٍ على تعبيد الطرق الإنسانية وإيصالها إلى تقوىً لا علاقة له باتباع الوحشية، واستغفال الأدمغمة واستعباد العقول.
ونحن بين يديّ هذا الكتاب الذي سيوصلنا إلى فضح الذين يعملون في الخفاء لتعطير الأفكار السائدة والمُسيطرة بحنوط الموت قبل أوانها لصغارٍ لم ينعموا بحياتهم، وأطفالٍ لم يفكروا بعد في الكيفيات التي يرسمون فيها بيتًا صغيرًا على لوحةٍ ورقيةٍ ليسكنوه في حصة التربية الفنية مقطوع الرأس للبشر الذين سيسكنونه ويأوون إليه؛ لأن رسم الأعناق لا يُدخل صاحبه الجنّة، وسيطلب منه يوم القيامة خلق ما رسمه ونفخ فيه الروح!. أي احتمالاتٍ قد تكون ولو بنسبةٍ واحد بالمائة أن يكون هذا الغلو الذي حرم الأبرياء من الاستمتاع بجمالياتهم، وفصول طفولتهم القصيرة التي إن زادت فلن تغدو أكثر من عشرة أعوام؟ يا إلهي من هذا الجزء القاهر والمتغالي والمتفنن في قتل الذهن ودفنه في طفولته لينمو كسيرًا، كئيبًا متهتكًا غير قادرٍ إلا على الزحف والتولي والإدبار عن إتمام سنواته العشر ليجد هؤلاء المُغالين أنفسهم من يعطّرون له بندقية بباروت الآخرة وفق أدلّتهم وحشوها برصاصات النصر والشهادة المؤزرة. لقد فسدوا وأفسدوا ولولا أنني قرأت هذا «التوحش» لأتمم به نزهاتي «الأرغانونية» العظيمة هذه وأضفتها لم سلف من مجسمّات هذا العِقد العربي النقدي التأصيلي الحديث لما توصّلت إلى عدّة حصانات أعادتني إلى الرشد الذي انتبهت له أولّ العُمر بأنّ حياتنا الحقيقية الواقعية الحديثة الخالية من التعالقات الذهنية الترسبية، أو استغفالات العقل الإنساني الذي أوجب له ربّه حياة طيبة يقضي فيها متعه الدينية وفق إطار الحلال القرآني والحرام القرآني مع وصايا خاتم الأنبياء، وصحاح ما بلغنا من قوله وفعله.. حياة طيبة أحبّها الله لنا وجعلها من حظّنا ولولا أنه تم السطو عليها من قِبل معتوهين لكنّا خير الأمم ولبقينا -ربما- نحكم الأندلس حتى يومنا هذا، ولما استوسخت أذهان أجيالنا وأذهاننا، ولا غاصت ضمائرنا في ترسبّات ووحل الواقع المستورد والمخطوط بأيادٍ استيقظت بهم وحيد هو عصر هذه الأمة ليذهب من دم أجيالها المعصور صراعات يابسة، وحشوٍ ديني ليس من الدين، وفقّاعات إجرامية بات علينا أن نقف اقتدارًا وإكرامًا وإجلالًا لكل من يسعى اليوم لتجفيف منابعها، وتحجيمها وبتر أفكارها من الداخل الإنساني الإسلامي المعهود بالِسلم، والعربي المشهود له بمكارم الأخلاق قبل أن يهبط الوحي وبعدما أطلّ علينا خير البشرية.. وعني شخصيًا أنادي بتبني مثل مشروع الدكتور الشبعان تبنيًا مؤسسيا ليغدو مدرسةًكريةً للاتزان الحديث، وعضده جنبًا إلى جنب بالمدارس الاتزانية الذاهبة لإعادة الناشئة المسلمة بأجيالٍ تستعيد الخطاب العقلي، وتتعايش بعيدًا عن التوحش والاستنصار أو التعادي؛ فالله أراد لهذه البشرية الإعمار لا التدمير أو التحريق أو التصهير أو التذويب في المنهجيات أو التدين الوضعي البشري، أو المصنوع البشري، أو المُختار البشري فالإنسان وحده الممنوح والموهب لهذه العقلانية.. فكيف به ينحيها جانبًا ويستعمل عقلًا آخرًا لا علاقة له بجسده ولا بذهنه..!.
برأيي رحلة للروح ونزهة للقلب وفسحة للصدر أكثر من كونه كتاب موروق ومسطور. تستعيد معه حالة التجلي والتخلي عن قواسم الحياة الخالية إلا النظر والعِبر والامتداد البصري في أصقاع الذات وتحليلها الروحاني العميق الفاحص لذوات تصوفت كمنهج تعبدي تزهدي تنزهي تعاضدي بين الروح العميقة التي لا تبلغها إلا بترحال نزيه. وقد مضى بنا الشبعان لتفصيل جوانب تصوفية حسب أدواتي ومرئياتي البسيطة لم يسبقه إليها أحد.
وأما كتابه الرابع: التوحش في نقد الأصوليات الفكرية وتمركزات العقل المستقبل» يوقفنا أمام كتاب يشرح فكر واستراتيجية تنظيم قاعدة الجهاد، الكتاب عبارة عن مجموع مقالات ناجي في منتدى أنا المسلم، تزامن صدور الكتاب مع التحولات الإستراتيجية التي شهدتها الحركة السلفية الجهادية وذلك بالتحول من مقاتلة العدو القريب المتمثل بالنظم السياسية العربية والإسلامية التي تنعتها بالمرتدة إلى مقاتلة العدو البعيد المتمثل بالغرب عموماً والولايات المتحدة الأميركية - التي تنعتها بـ «رأس الأفعى» - وإسرائيل على وجه الخصوص.
وفي كتابه التوحش أو ما أطلق عليه كتوطئة جانبية بـ»المرايا المهشّمة في نقد الأصوليات الفكرية و تمركزات العقل المستقيل» فقبل عبورك للصفحات الأولى ستجد من هم في انتظارك لإعادة التوازن الذهني إليك، أو تعقيل الغير معقول أمام فهمك الذي أمضى من عمره قبل اقترانك بهذا الفِكر الذي جاء ليحلل لك عصبة المغتالين للدين، وأتباع الغلو الذين ينزفون من شهوات الناس في سرّهم حتى يسدون رغائبهم، وأمانيهم وحوائجهم ليبرزوا للناس كشفعاء، ونزهاء، وبسطاء. فإن رأيتهم تُرهق نفسك لأجلهم، وأنّهم ودّعوا الدنيا ومضوا إلى رحلةِ الآخرة منذ إعلانهم الطلاق البائن للحياة بزخرفها وزهوها، وجمالياتها.
ويسبق ظاهرة المُغالين في دينهم ودنياهم وتفاصيل الذين اعتنقوا تفاصيل تعنيهم وأرادوا رصد الناس عليها، وصناعة الأثر لهم حذو الكعب بالكعب، والمنكب بالمنكب.. إن ملخصًا استنهاضيًا ونهضويًا وتحليلًا استرحامًا بما وصل إليه هؤلاء المغالين لتجده أمام عينيك في هذا المشروع الحديث الذي يعيدنا لمنهجية السِلم القرآني، وتعاضده مع بساطة الدين، وسماحته، ومنهجيته الوعضية الواسطة لا الضاربة للأعناق على مقاصل الهلاك، أو الإجحاف الذي استرسل فيه المتنطعون طوال عقودهم الدالفة. إنّ رحلة الشبعان لا أشكّ في معاناتها التأليفية والتمحيصية المُتقنة المستمدة من مرجعية مصداقية لا تخييلية ذاتية أو تهجّمية هدفها الترصد والاسترفاد فحسب، أو الرصد لنواتج التعنيف الإنساني الذي امتصّ حماس البشرية تجاه دينهم الحنيف، وصلاتهم الأرضية بسماء ربٍ سقاهم الرحمة واستسقوا منه العفو والرضا والتسامح بأقل الأعمال الواجبة وأخلصها وأتقاها. ما يجعلك تهفو إلى تنمية إيمانياتك باشتغالات الشبعان أنّ الغلو الذي أوقظه لم يبعد عن توصيات قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) [سورة المائدة : الآية 77]، وإن عاد المؤلف العميق فِكر إلى قول البشر فلن يمضي أبعد مما أوضحه واستأمنه فينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُحذرنا ويحاذر من الغلو والتنطع؛ حين قال: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ» وأمام استظهارات الشبعان وتخليصه للانغماس الروحاني بالفكر التشددي نجد أننا أمام ما يستوعبنا ويصلح لنا ولأجيالنا الحاضرة بلغةٍ سلسةٍ قادرةٍ على تعبيد الطرق الإنسانية وإيصالها إلى تقوىً لا علاقة له بأتباع الوحشية، واستغفال الأدمغمة واستعباد العقول.
ونحن بين يديّ هذا الكتاب الذي سيوصلنا إلى فضح الذين يعملون في الخفاء لتعطير الأفكار السائدة والمُسيطرة بحنوط الموت قبل أوانها لصغارٍ لم ينعموا بحياتهم، وأطفالٍ لم يفكروا بعد في الكيفيات التي يرسمون فيها بيتًا صغيرًا على لوحةٍ ورقيةٍ ليسكنوه في حصة التربية الفنية مقطوع الرأس للبشر الذين سيسكنونه ويأوون إليه؛ لأن رسم الأعناق لا يُدخل صاحبه الجنّة، وسيطلب منه يوم القيامة خلق ما رسمه ونفخ فيه الروح!. أي احتمالاتٍ قد تكون ولو بنسبةٍ واحد بالمائة أن يكون هذا الغلو الذي حرم الأبرياء من الاستمتاع بجمالياتهم، وفصول طفولتهم القصيرة التي إن زادت فلن تغدو أكثر من عشرة أعوام؟ يا إلهي من هذا الجزء القاهر والمتغالي والمتفنن في قتل الذهن ودفنه في طفولته لينمو كسيرًا، كئيبًا متهتكًا غير قادرٍ إلا على الزحف والتولي والإدبار عن إتمام سنواته العشر ليجد هؤلاء المُغالين أنفسهم من يعطّرون له بندقية بباروت الآخرة وفق أدلّتهم وحشوها برصاصات النصر والشهادة المؤزرة. لقد فسدوا وأفسدوا ولولا أنني قرأت هذا «التوحش» لأتمم به نزهاتي «الأرغانونية» العظيمة هذه وأضفتها لم سلف من مجسمّات هذا العِقد العربي النقدي التأصيلي الحديث لما توصّلت إلى عدّة حصانات أعادتني إلى الرشد الذي انتبهت له أولّ العُمر بأنّ حياتنا الحقيقية الواقعية الحديثة الخالية من التعالقات الذهنية الترسبية، أو استغفالات العقل الإنساني الذي أوجب له ربّه حياة طيبة يقضي فيها متعه الدينية وفق إطار الحلال القرآني والحرام القرآني مع وصايا خاتم الأنبياء، وصحاح ما بلغنا من قوله وفعله.. حياة طيبة أحبّها الله لنا وجعلها من حظّنا ولولا أنه تم السطو عليها من قِبل معتوهين لكنّا خير الأمم ولبقينا -ربما- نحكم الأندلس حتى يومنا هذا، ولما استوسخت أذهان أجيالنا وأذهاننا، ولا غاصت ضمائرنا في ترسبّات ووحل الواقع المستورد والمخطوط بأيادٍ استيقظت بهم وحيد هو عصر هذه الأمة ليذهب من دم أجيالها المعصور صراعات يابسة، وحشوٍ ديني ليس من الدين، وفقّاعات إجرامية بات علينا أن نقف اقتدارًا وإكرامًا وإجلالًا لكل من يسعى اليوم لتجفيف منابعها، وتحجيمها وبتر أفكارها من الداخل الإنساني الإسلامي المعهود بالِسلم، والعربي المشهود له بمكارم الأخلاق قبل أن يهبط الوحي وبعدما أطلّ علينا خير البشرية.. وعني شخصيًا أنادي بتبني مثل مشروع الدكتور الشبعان تبنيًا مؤسسيا ليغدو مدرسةًكريةً للاتزان الحديث، وعضده جنبًا إلى جنب بالمدارس الاتزانية الذاهبة لإعادة الناشئة المسلمة بأجيالٍ تستعيد الخطاب العقلي، وتتعايش بعيدًا عن التوحش والاستنصار أو التعادي؛ فالله أراد لهذه البشرية الإعمار لا التدمير أو التحريق أو التصهير أو التذويب في المنهجيات أو التدين الوضعي البشري، أو المصنوع البشري، أو المُختار البشري فالإنسان وحده الممنوح والموهب لهذه العقلانية.. فكيف به ينحيها جانبًا ويستعمل عقلًا آخرًا لا علاقة له بجسده ولا بذهنه..!.