مسعدة اليامي - الثقافية:
عندما تصافح كتاباته المتنوعة التي تحاكي جميع حواسك وفكرك فإنك لا تقف عند قراءة عمل واحد، بل تطلب قراءة المزيد من أعماله الأدبية التي تنوَّعت في كتابة القصة والرواية والمقال والمقتطفات الأدبية التي لكل منها عبق مختلف.. ومن خلال هذا اللقاء يحدثنا القاص والروائي الكاتب الأستاذ إبراهيم مضواح الألمعي عن بدايته، وكيف أبحرت سفينته الإبداعية منذ الطفولة عبر ميناء مكتبة المدرسة حتى أنجز ما أنجز من كتب تتناولها العقول من فوق أرفف المكتبة العربية.
) لكل شيء بداية؛ كيف كانت بدايتك مع القراءة؟
- بدأتُ القراءة من مكتبة المدرسة، والقصص الملونة التي بهرتني فلم أكن قد رأيتها من قبل، وفي الغالب أن هذه الصور هي دافع التصفح، وفي كثير من الأحيان لا أجاوز تأمل الصور إلى القراءة، ومما علق بذاكرتي من قراءاتي في المرحلة الابتدائية قصة (جابر عثرات الكرام)، المكتوبة في سلسة حكايات من التاريخ، للشيخ علي الطنطاوي، وهي من أسباب تعلقي بأدبه فيما بعد، وأتذكر أنني قرأت ديوان عمر ابن أبي ربيعة وأنا في المرحلة المتوسطة، وما تزال تلك النسخة في مكتبتي حتى اليوم، وإن لم أعرف مصدرها، في المرحلة الثانوية كلَّفني أستاذي الشاعر محمد الزيداني - وكان مدير الثانوية حينئذ- بكتابة حكمة اليوم كل صباح، وتعليقها في إطار معد لهذا الغرض، في مدخل المدرسة، فكنت أستعير الكتب من المكتبة مضطرًا لأختار حكمة اليوم، ولا شك أنني انتفعت بهذه القراءات من حيثُ شعرتُ أو لم أشعر..
) الموهبة وحدها تكفي أو إلى ماذا تحتاج في بداية تكوينها؟
- الموهبة وحدها لا تُثمر في أي مجال من المجالات إذا لم تواتِها ظروفٌ مُعِيْنَة، وإرادةٌ قوية، وعملٌ دؤوب؛ فالموهبة بذرةٌ لا تستوي على سوقها إلا في تربة ملائمة، مسقيَّةً بالعمل، والدأب، وإيمان صاحبها بها، وتشجيع المحيطين، وإلا فإنها ستكونُ عرضةً للموت تحت وطأة الإهمال، أو الكبت، أو بأي عامل من عوامل الوأد الكثيرة.
) عندما شعرت أن موهبتك أصبحت ثمرة ناضجة وحان وقت القطاف ماذا فعلت وأي الأبواب طرقت؟
- ليس من الصواب أن ينظر الكاتب إلى نفسه أو نتاجه نظرة الراضي المطمئن، بل عليه أن يستمر في المحاولة مرة بعد مرة، ويسير في الدرب الطويل خطوة بعد خطوة، وما زلت أُتبع المحاولة الأخرى.
أما أول عهدي بالكتابة والنشر فكان على إثر انفعالي بمقالة للكاتب الكويتي عبدالله البصير - رحمة الله عليه - قرأتها في مجلة العربي، فكتبتُ تعقيبًا وأرسلته للمجلة، فنُشر في عدد نوفمبر1994م، مع إشادة من تحرير المجلة.
وحين قرأتُ خبر حادث سيارة نقل معلمات أودى بهنَّ استولى عليَّ غمٌ لم يَجْلِهِ سوى كتابة قصة هي أول ما نُشرَ لي في هذا الفن، في (ملحق الأربعاء الأدبي) بصحيفة المدينة، في (29 أكتوبر 1997م)، بعنوان (لقاء)، وهي في مجموعتي القصصية (قطف الأشواك).
أما أول كتابٍ نشرته فقد كانت مادتُه منتخباتٍ من ديوان المتنبي، دَوَّنْتُها حين قرأت الديوان، بقصد مراجعتها وحفظها، فلما رآها صديقي الدكتور عبدالرحمن الجرعي اقترَحَ نشرَها، لتَعُمَّ فائدتُها مَن لا يمكنه التنقيب في الديوان، فعدتُ إليها فبوبتها وعلقتُ عليها ونشرتها في كتاب(من طيبات أبي الطيب)، عام 1997م.
) القصة كيف كنت تسقي هذه النبتة حتى وصلت لما وصلت إليه اليوم؟
- يتغذَّى الفن القصصي على التأمل، والانفعال بالمشاهدات والمواقف، حينَ تصادف إحساسًا مرهفًا، والقراءة لكُتَّاب القصة بمختلف مدارسهم ولغاتهم، وبيئاتهم، وثقافاتهم، وعصورهم؛ كلُّ هذا يأخذ قلم الكاتب إلى الاستمرار وتجديد المحاولة مرة بعد مرة..
) هل كنت تجمع المشاكل والقضايا ثم تصنعها في مخيلتك قبل أن تراقص القلم والورقة بالقصة أو ماذا كنت تفعل؟
القصة القصيرة تولد فكرة تمر كشهاب في سماء الفكر، فإن وافقتْ صفاءَ ذهنٍ أمكن التقاطها، ثم تتحول إلى هاجسٍ يشغلُ البال، فلا مناص حينذاك من سكبها على الورق أو الشاشة؛ دفعة واحدة، ثم تأتي المراجعة والمعالجة، والحذف والتعديل، ومن ثَمَّ النشر.
) قبل أن تكتب الرواية ما الذي كان يراودك على أن تخطو تلك الخطوة؟
- لم أفكر ابتداءً في كتابة الرواية كمشروع أدبي، ولكنَّني انشغلتُ بفكرة الموت زمنًا، وحين أردتُ كتابة هذا الهاجس في قصة كالعادة لم تَفِ القصة بنقل هواجسي، تجاه حالة الموت المحيرة والغامضة، فأعدتُ كتابتها في قالب روائي، وتناسلت الأحداث والمشاهد والشخصيات، حتى اكتملت رواية (جبل حالية)، التي حاولتُ عبرَها اقتحامَ حُجُبِ الموت؛ وفق معرفتي وتأملاتي، وقراءاتي وهواجسي وقت كتابتها.
) هل اختلف سقي نبتة الرواية عن القصة وما أهم المراجع التي استعنت بها في كتابة رواياتك؟
- يعدُّ بعضُ النقاد كتابةَ القصة القصيرة تدريبًا يُهيئ لكتابة الرواية، وهذا رأيٌ صحيح من حيث استفادة الروائي من تجربته القصصية، ولكنه لا يعني أن الراوية امتداد للقصة القصيرة، فالرواية فنٌ والقصة القصيرة فنٌ آخرُ مستقل، ولهذا نجد من يكتب أحد الفنين ولا صلة له بالفن الآخر؛ وإن اتحدَ المنبع السردي لكليهما فإن لكل منهما مجراه الخاص.
فإن كانت القصة ومضة لا تكلف الكاتب إلا القليل من العناء والوقت، فالرواية ليست كذلك؛ فهي تقتضي من الكاتب التزود بثقافة واسعة في مجال العمل، غير المهارة الكتابية، فهو يبحث ويرصد، ويُنقِّب، ويتزوَّد بمعارفَ رافدةٍ لكل شخصية أو حدث، إضافة إلى البعد النفسي والفلسفي لكل شخصية أو حدث.
) نافذة المقال ماذا أخذت منك وماذا أعطتك ومن واقع تجربتك ماذا يحتاج المقال الأدبي من مقومات حتى يطرق المواضيع بموضوعية؟
- تتعدَّدُ اتجاهات المقالة الأدبية فمنها الانطباعي الذي لا يُكلِّف وقتًا ولا جهدًا سوى وقت الكتابة وجهدها؛ لأنه نابع من رؤية محددة تجاه موضوع محدَّد، ومنها المقالات التي تعتمد على معرفة شاملة وتفصيلية لموضوع المقالة؛ وهذا يقتضي من الكاتب التحضير وجمع المعلومات من مصادرها وتوثيقها، ومهما اختلفت الموضوعات وطرق المعالجة يبقى الأسلوب أساس النجاح؛ الأسلوب الذي يشدُّ القارئ فلا ينصرف عن القراءة، ولا يتسرب الملل أو الضجر إلى نفسه، وهذا الأسلوب هو ما لا يملك الكاتب التحكم الكامل فيه. أما أهم ثمرات الكتابة المقالية، غير المرانة والتدريب، أنها من أهم دوافع القراءة والبحث والتنقيب والتعلُّم؛ واكتساب المزيد من المعارف، والاطلاع على تجاربَ مختلفة.
) مقال البروفايل كيف تراه اليوم وما رأيك فيمن حول ذلك الفن إلى مساحة من الإطراء والمديح الشخصي ولا أدعي العلم ولكن أرى أن كتابك العائشتان نموذج لذلك الفن؟
- الترجمة الغيرية كما في كتابي (العائشتان)، وغيره، ليس مجرد وصف خارجي للشخصية، بل هو فوق ذلك معلومات لا بُدَّ أن تتسم بالدقة، ومواقف لا بُدَّ أن توثَّق من مصادرها، وتحليل للشخصية يُفترض به أن يتحلَّى بالعمق، يرافق كل ذلك انطباعات واستنتاجات، وهي بدورها قائمة على معلومات موثقة عن الشخصية، فلا مجال لإلقاء القول على عواهنه، فهذا النوع من المقالات يجعل مصداقية الكاتب وموضوعيته على المحك؛ ويبقى الحكم للقارئ الحصيف والناقد المنصف.
) الجوائز المحلية أو العربية ماذا تُكسب المادة الأدبية والأديب عندما تصبح في يد الناقد؟
- أهم ما تمنحه الجوائز بشكل عام هو الاعتراف والتكريم وتقدير الجهود، ولفت الأنظار إلى العمل الفائز، خاصة في ضوء كثرة الإنتاج الأدبي، وغياب رموز الأدب والنقد الذين كانت كلمة تقريظ أو ثناء من أحدهم تمثل جواز مرور إلى القراء، والجوائز ظاهرة صحية، إن التزمت بمعاييرها، وأسقطت الحسابات الأخرى.
) الكتابة بحر والتعدد عمق ذلك البحر كيف تمكنت من الموازنة والعبور بسفينتك إلى بر الأمان؟
- إن كان ذلك قد تحقَّق فهو في اعتقادي راجعٌ لأنني لا أتكلَّفُ الكتابة في أي مجال، وإنما أكتبُ مدفوعًا بالحب لما أكتب، وبالظروف المواتية لكل عمل، وبحشد طاقتي للتجويد - فإن أفلحتُ فذلك ما كنتُ أبغي، وإن كانت الأخرى فلا يُلامُ المرء بعد اجتهاده.
) الذي يقرأ لك بعمق يصله شعور أنك تكتب بحب، ماذا تقول عن ذلك؟
- أقول: إنه استنتاج رائعٌ؛ أسعدني، ويدلُّ على صحته أنني أشرتُ إلى ذلك في إجابة السؤال السابق قبل أن أقرأ هذا السؤال، وأنكِ توصلتِ لهذا الاستنتاج دون أن تقرئي جوابي السابق. وأرجو أن نتفقَ أيضًا أنه: ليس في الدنيا دافعٌ أقوى من الحب.
) كم من الوقت تمضي مع خير جليس وهل لا تزال رغبة القراءة تأسرك إلى اليوم كما قلت وما أهم أربعة كتبت غيرت لون حبر قلمك؟
- القراءة هي المتن في ساعات ليلي ونهاري، والهامش مزدحمٌ بسائر النشاطات الأخرى، قد يكون المتن ساعةً، والهامش ثلاثًا وعشرين ساعة، لكن يبقى المتنُ متنًا، والهامشُ هامشًا.
أما الكتب المؤثرة في كتاباتي، فهي كثيرة، يأتي في طليعتها كتب علي الطنطاوي، وأخصُّ منها: (من حديث النفس)، وكتب طه حسين وأخصُّ منها: (الأيام)، وكتب غازي القصيبي؛ وأخصُّ منها (شقة الحرية)، وكتب غابرييل غارسيا ماركيز، وأخص منها: (عشتُ لأروي).
) كيف ترى موجة التدريب في الفنون الأدبية وماذا تقول للمؤسسات الثقافية عن ذلك وما أهم النصائح التي تهديها لمن قمت على تدربيهم في كتابة القصة أو أي مجال أخر؟
- التدريب أحد عوامل صقل الموهبة، شرط ألا يقيدها بسلاسل القوالب الصلبة، وإنما يضع إشارات إرشادية (لا إلزامية) على الطريق، يهتدي بها الأديب في طريقه الطويل، وليس لديَّ من نصيحة للمؤسسات الثقافية، فهي تعرف دورها، ولا شكَّ أنها بوعي القائمين عليها تسعى للقيام به.
أما ما أحرص على تأكيده للمتدربين فهو: أن ما يقوله المتحدَّث سواءً في ذلك الأستاذ والمدرب والمنظر ليس حتميًّا، وإنما هو ضوء على جانبي الطريق، يُفيدك ولا يلزمك، فليس في الإبداع حتميات.
) هل على المبدع كلما أخطأ أن يقدِّم اعتذارًا عن هنَّاته الأدبية ولماذا لا يكون هناك ورشة مكتملة من البداية في (الموهبة، المدرب، المصحح اللغوي) بصفة مستمرة في كل مؤسسة ثقافية، الممثلة في الأندية الأدبية، فروع جمعية الثقافة والفنون، المكتبات العامة؟
- سيبقى الأديب يخطئ ويراجع ويُصحِّح، ويتعلّم ويتطوّر، ونحن بخير ما آمنا بهذه المتتالية، وأصلحنا من أساليبنا، وقوَّمنا المعوج من أعمالنا، فذلك مؤشرٌّ على التقدُّم وعدم الثبات أو النكوص، والمؤسسات المشار إليها تضطلع بمسؤولية يجب عليها أداؤها، ولكن المسؤولية تقع على الأديب نفسه أوَّلاً؛ فهو من يختط طريقه، ويصنع مقومات نجاحه، وخاصة في هذا الزمن الذي توافرت فيه وسائل البحث والمعرفة، على نحو غير مسبوق.