د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في ظل الأزمة القائمة حاليًا بين روسيا وأوكرانيا، يكثر التساؤل حول الغذاء وسعره في هذا العالم الكبير، وتأثير ذلك في المستقبل المنظور والقريب، وربما يكون الحديث عن المستقبل أكثر أهمية من الوضع الحالي، وفي الحقيقة أن هناك كمية كافية من القمح والحبوب الأخرى متوفرة في العالم، والمخزون العالمي من الحبوب كبير، ونجد أن مخزون القمح وحده يبلغ مائتين وسبعين مليون طن ونصيب الصين منها مائة مليون طن يكفي لتغطية حاجة الشعب الصيني العظيم والكثير لمدة سنة كاملة، أي أنه يكفي للوصول إلى حصاد العام القادم، وهذه سياسة حكيمة في الواقع، ونجد مثل تلك السياسة موجودة أيضًا في أوروبا، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول المنتجة الأخرى، هناك دول دائمة التصدير للقمح في العالم مثل، روسيا، وأوكرانيا، وفرنسا، وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا، كل هذه الدول تصدر في كل عام كمية كافية من القمح تزيد وتنقص طبقًا للظروف الجوية والإنتاجية، وهناك دول دائمة الاستيراد للقمح في العالم مثل مصر، والجزائر، وإيطاليا، وتونس، وإندونيسيا، ودول الخليج العربي ما عدا المملكة العربية السعودية في فترة من الزمن، وأيضًا السويد، والنرويج، كل هذه الدول تحتاج إلى استيراد كميات من القمح كل عام، بينما نجد أن هناك دولاً يتأرجح إنتاجها بين الفائض الذي يكون كافيًا لتغطية حاجتها ويزيد، أو أن يكون هناك نقص يستوجب عليها الاستيراد من الخارج، وفي الأعوام التي يكون هناك فائض تقوم بتصديره إلى الدول دائمة الاستيراد، أو تلك التي لم تساعد الظروف الإنتاجية على إنتاج الكمية الكافية لتغطية حاجة شعبها، بينما تقوم باستيراد ما تحتاج إليه في السنين التي يكون إنتاجها أقل من تلبية الطلب، مع ملاحظة أن الطلب في الغالب يزيد بنسبة زيادة عدد السكان، والقدرة الشرائية للمواطن، والتغير الطبيعي الذي يمكن أن يطرأ على نمط المعيشة، مثل دخول منتج يعتمد على القمح، كما حدث عند دخول ماكدونالدز، والبيزا وغيرها إلى الصين.السياسات الزراعية العالمية ميدان واسع يمكن التطرق إليه، فهناك دول تحاول زيادة مخزونها من القمح والحبوب الأخرى عندما تنخفض الأسعار بمقدار كافٍ، كما أنها تحجم عن الاستيراد وتستغل ما لديها من مخزون عندما ترى أن الأسعار وصلت إلى رقم طارئ مبالغ فيه، كما وقد تستخدم التوقعات المناخية من خلال التنبؤات الجوية عبر الأقمار الصناية، وأيضًا مقدار وسرعة التيارات في أعماق المحيطات، والمعروفة بظاهرة النينو التي تعطي مؤشرًا للحالة المطرية في المواسم القادمة، وهذا قد يساعد في الوصول إلى توقعات منطقية على مناسبة الأحوال الجوية للإنتاج، وأيضًا جمع المعلومات ومعرفة المخزون في كل دول العالم ومتابعتها متابعة دقيقة عامل مهم حتى يمكن لمتخذ القرار أن يدخل السوق في الوقت المناسب، وفي الغالب فإن دخول السوق بعد الحصاد يكون أفضل، لأن الشركات والمزارعين يحاولون التخلص مما هو مخزون لديهم ليتم استقبال المحصول الجديد، ولهذا فإن الأسعار في الغالب تكون أقل، والحديث عن السياسات الزراعية أخذني بعيدًا إلى خمسة وثلاثين عامًا مضت لما كنت طالبًا بجامعة نورث كارولاينا في الولايات المتحدة أدرس السياسات الزراعية، وكان البروفيسور المسؤول عن ذلك عميقًا في تفكيره، ودائمًا ما كان يردد أن الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت التغلب الاقتصادي على اليابان لكون التقنية الأمريكية متقدمة جدًا على اليابان، وما لم يكن يعلم أنه بعدة سنوات ستصل اليابان إلى درجة متقدمة أيضًا من التقنية، كما هي الولايات المتحدة الأمريكية، ودول أخرى. والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تعطي مزارعيها معونة سخية للاستمرار في الزراعة من خلال دعم مدخلات الإنتاج، وأيضًا امتصاص الفائض، حتى تحافظ على السعر داخل السوق المحلي، ثم تجمع ذلك الفائض الذي لديها في المواسم الجيدة، وتقوم ببيعه بسعر منخفض إلى الدول التي تربطها بها علاقات سياسية حسنة، كما أنها تحد من مبلغ الإعانة التي يمكن أن تنفقه، وفي الوقت نفسه فإنها تستثمر كل ذلك في السياسات الخارجية، وهذا أمرٌ مألوف لدي بعض الدول، والدول الغربية بشكل عام ترى نفسها أنها مسؤولة عن توفير كمية كافية من الغذاء الأساس للعالم، ولاسيما القمح لكل شعوب الأرض، ولكن أيضًا مقابل مبلغ مالي يتم دفعه إما مباشرة وإما بالقروض، واستثمار ذلك سياسيًا.
بعد ذلك كله يمكننا القول إن ما نراه قائمًا اليوم، ليس نقصًا في إنتاج القمح، أو عدم توفر القمح في الأسواق، لكن محاولة المتنازعين الاستفادة من أهمية الغذاء وحاجة الناس إليه سياسيًا وإعلاميًا، وكان نتيجة ذلك ارتفاع الأسعار، فأصبحت الدول المستوردة تدفع ثمنًا لا يتناسب مع قانون العرض والطلب، ومفهوم السوق، الذي يجب أن يحدد أسعار السلع، لكنها الأزمات تغطي بظلالها مساحة أبعد من ميدانها.