د. عبدالحق عزوزي
تعيش الولايات المتحدة في حالة صدمة بعد مقتل 19 طفلاً على يد شاب مسلح داخل مدرستهم ببلدة يوفالدي في تكساس؛ ولقد لخص الرئيس الأمريكي درجة المأساة في خطاب له إلى الأمة ألقاه من البيت الأبيض، قال فيه: «متى، حباً بالله، سنقف بوجه لوبي الأسلحة؟». وأضاف وقد بدت عليه واضحة أمارات التأثر «لقد حان الوقت لتحويل هذا الألم إلى عمل، من أجل كل والد، من أجل كل مواطن في هذا البلد. ينبغي علينا أن نوضح لكل مسؤول منتخب في هذا البلد أن الوقت حان للتحرك».
كما هاجم الرئيس الديمقراطي المعارضة الجمهورية التي عرقلت حتى الآن كل محاولاته لتمرير إجراءات في الكونغرس مثل فرض إلزامية التدقيق في السجل الجنائي والتاريخ النفسي لكل من يرغب بشراء سلاح ناري قبل بيعه هذا السلاح... ويرفض المعسكر المحافظ رفضا تاما إعادة فرض حظر على بيع بنادق هجومية للمدنيين، وهو إجراء كان ساريا في الولايات المتحدة بين 1994 و2004 وكان يمنع المدنيين من شراء بعض أنواع الأسلحة نصف الآلية.
وتشهد الولايات المتحدة بشكل متكرر حوادث عنف وإطلاق نار في المدارس والحانات تسفر عن عشرات القتلى الأبرياء. ومن أشهر الحوادث التي يمكن ذكرها هنا مقتل عشرين طفلا في ولاية كونيكتيكت عام 2012 بعدما فتح رجل النار عليهم في مدرسة؛ كما أنه في سنة 2018 قتل طالب في مدرسة ثانوية بولاية تكساس ثمانية من زملائه وهي الحادثة التي سبقتها بعدة أشهر حادثة أخرى راح ضحيتها 17 شخصا. وفي كل مرة تحيي هذه الحوادث الجدل المحتدم بالبلاد حول استخدام وشراء الأسلحة النارية.. وفيما ينعقد هاته الأيام بمدينة هيوستن القريبة مؤتمر الجمعية الوطنية للبنادق، أقوى اللوبيات المدافعة عن اقتناء الأسلحة النارية، تثير هاته المسألة انقسامات عميقة بين الأمريكيين.
إن إمكانية تشديد القوانين المتعلقة بالأسلحة النارية لا تزال بعيدة المنال نظرًا إلى معارضة الجمهوريين وأسباب أخرى؛ فمدينة بولدر مثلا سبق وأن أعلنت حظراً على «الأسلحة من نوع البنادق الرشاشة» والملقمات الكبيرة السعة بعد إطلاق نار في مدرسة في باركلاند (17 قتيلاً) في فلوريدا (جنوب شرق) عام 2018؛ لكن قاضياً علق هذا الحظر، في قرار رحبت به «الجمعية الوطنية للبنادق»، لوبي الأسلحة النارية في الولايات المتحدة.
وأظن أن القاضي انطلق في قراره من مرجعية دستورية واضحة؛ فامتلاك الأسلحة النارية من طرف المواطنين هو من بين الحقوق التي أقرها الدستور الأميركي منذ أزيد من قرنين؛ فالولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الوحيدة في العالم التي تسمح لمواطنيها بحمل السلاح حتى في الشوارع، وذلك انطلاقاً من مبدأ احترام الحرية الفردية.
ويستمد الدستور الأميركي مادة «الحق في التسلح» من المبدأ الذي يؤكد أن هذا الحق من الحقوق الطبيعية؛ كما تختلف القوانين المتعلّقة ببيع الأسلحة من ولاية أميركية لأخرى، ففي ولاية مثل تكساس مثلاً يستطيع الفرد حمل السلاح من دون ترخيص لأن الترسانة القانونية تسمح له بذلك... وتشير الإحصاءات إلى وجود أكثر من ثلاثمائة مليون قطعة سلاح فردية أمريكا، كما أن جلَّ الأسلحة التي يستخدمها الأمريكيون في حوادث القتل هي البنادق نصف الآلية والمسدسات من مختلف المعايير، وبالأخص تلك الأسلحة التي تتميز بالسرعة العالية والدقة في إطلاق النار. وكل هذا يجعل الولايات المتحدة أحد أكبر البلدان التي تشهد الكثير من الاعتداءات والهجمات بواسطة الأسلحة النارية.
ورغم تسارع وتيرة هاته الحوادث المأساوية بسبب استعمال الأسلحة الفردية ورغم تزايد المطالبات بتشديد القوانين المتعلِّقة ببيع الأسلحة في البلاد، فإن لوبيات بيع الأسلحة لها تأثير كبير على مسار القوانين في الكونغرس؛ فهاته اللوبيات تنشط كثيرًا مع أعضاء البرلمان وهي تمولهم أحياناً مما يسمح لها بتعطيل كثير من اقتراحات القوانين، التي تهدف إلى تعزيز المراقبة على شراء الأسلحة وحيازتها، كما تمول هاته اللوبيات الانتخابات الرئاسية بملايين الدولارات. والأدهى من هذا كله أن حوادث إطلاق النار العشوائي تزيد من الطلب على الأسلحة من طرف الأمريكيين؛ إذ أصبحت اللوائح الأمريكية التي تتناول بيع الأسلحة النارية أكثر تساهلاً مما كانت عليه في السنين الماضية، وهو ما يزيد من استبعاد وقف بيع الأسلحة في البلد.