أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: عشتُ أمجادَ الْبِرِّ الكريم من (آل الجميح) صغيراً في مدينتي شقراء، ثم بعد اليفاع عند شَدْوِيْ لطلب العلم، ثم لما طعنتُ في الكهولة.. مَعَ بِرِّهم بوالدي (عُمَرَ) رحمه الله تعالى، وبراً بي، وبِراً بأهل البلد والوافدين عليها..
ولقدْ صحَّ الحديث الشريف: (أنَّ ناساً من الصحابة رضوان الله عليهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعمل أحدنا العملَ فَيُحْمَدُ عليه)؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك عاجِلُ بُشْرَى المؤمن)..
والله تكفَّل بمن صَلُحَتْ نِيَّتُه، وأنفقتْ يمينُه ما لا تعلم شماله: أنْ يُظْهِر الله من أمره ما يُحقِّقُ له الثناء عند الخلق؛ فتحصلَتْ له البشرى العاجلة التي هي وعد من الله للمؤمن؛ وهذه البشرى إِحْدَى رُكْنين في قوله سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[سورة النحل/97].
قال أبو عبدالرحمن: وهل في الحياة الطيبة في الدنيا أسعدُ من الثناء الحسن نطقاً بالألسن، ومودةً في القلوب؟!.. و(آل الجميح) من ذُرْوَةِ بني زيد؛ وهم أسرةٌ كريمة ذات خيرٍ وفضلٍ؛ فجدهم الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى اشترى ذات يوم حِمْلاً؛ فلما أفرغه وجده مغشوشاً وفي وسطه عفنٌ؛ فأخذه بطيب نفس، ولم يُرجِّعه، ولم يُعنِّف على البائع؛ وإنما قال لأحد أولاده قولَةً صارت مثلاً: (خَلَّهْ يِغِشّْ؛ حتى يِحِشّْ)..
وَمرة طَرق عليه البابَ مُنْتَصف الليل شخصٌ ليس من عُصْبَتِه، ولا من خُلَّص أصدقائه؛ فقام من لَذاذةِ النوم وكان مُرْهَقاً؛ فلما فتح الباب قال الطارق: أَبْشِرْ يا عمي: رَزَقنا اللهُ هذه الساعة بمولود.. فعلم رحمه الله تعالى القصد؛ فقال: بشَّرك الله بالخير.. اِنْتظر.. ثم غاب عنه قليلاً، وأحضر له زِمْبيلاً كبيراً فيه التمر والبُرُّ مع دريهمات، وقال: (هذا اِشْتَرْ به أُوْدامْ للمعزِّبَة) يريد لحماً ودَسَماً لامرأته.. وخُبِّرتُ في الصِّغَرِ وأنا بشقراء أنَّ أحدَ آل الجميح كان يراسله أحدُ أفراد أسرته خارج شقراء؛ فكان الجميح يردُّ عليه ويقول في آخر خطابه: (إنْ بدا حاجة فنحنُ مستعدُّون)، وتكرَّرت هذه العبارة على مَسْمَعِه عِدَّةَ سنواتٍ في عَشَراتِ الخطابات؛ فَفُوْجِىءَ الجميحُ بقريبه ينزل عنده ضيفاً، ويقول: تقطَّعت من الدهر والجرب، وليس في اليد شيء، وأنت تقول في كل خطاب: (إنْ بدا حاجة فنحن مستعدون)؛ فضحك الجميح، وقال: (إنَّ هذه أمور تُذْكَرْ في الخطابات فقط، وأنت أخذْتَ الأمر مأخذ الجد)؛ ومع هذا أعطاه وواساه وليس بذي يُسْرٍ كثيرٍ.. وكان عبدالعزيز بن عبدالله الجميح رحمه الله تعالى رجلاً ربَّانِياً كريماً ذا شفقةٍ ورحمةٍ ومواساةٍ، وكان أخوه محمد رحمه الله وهو (الدينمو) المحرِّك للتجارة لا يعارضه في تصرُّفٍ ما؛ بل يفرح بما جُبل عليه من الخير.
قال أبو عبدالرحمن: ولي تجربةٌ معه ذكرتها في تباريحي، وكنتُ فقدتُ والدتي رحمها الله تعالى، وتركتني مع إخوتي الصغار، وأخي الكبير، ومنهم (عقيل) الذي مات طفلاً، وكان والدي رحمه الله متفرِّغاً لنا في الخدمة وإعداد الغداء والعَشاء والقيام علينا في المدرسة، وقد ذكرتُ ذلك في التباريح.. وآل الجميح وعمدتهم الشيخ محمد بن عبدالله رحمه الله، وأبناءُ أخيه الشيخ عبدالعزيز متع الله بهم: فتح الله عليهم، وأمدَّهم برزقٍ واسعٍ ؛ فلم تُصِبهم ذَرَّة من ميوعة الْغِنَى وجبروته؛ بل كانوا على سمت آبائهم تواضعاً وحُسْنَ عِشْرة واستقبالاً للناس واحتراماً لكل من تهيَّب عُلُوَّ مقامهم.. هذا أمرٌ عُرفوا به قبل أنْ يبلغوا اليفاع.. وقد عايشتُ مسيرتهم في البِرِّ والخير في الصغر بشقراء منذ مشروعهم الخيري في حفر ارتوازات الماءِ بعد جفافٍ أصاب البلد مع تمديد المياه بقنواتٍ إلى البيوت، وفتحوا الباب طيلة شهر رمضان للصُّوَّام من بلاد الوشم والسر والقصيم ومِسْكَة وضِرِيَّة..إلخ مع مأدبةٍ كريمةٍ يوم العيد..
وإذا حضر الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى في العشر الأواخر حَصَلَ عَدَدٌ من المآدب.
وبحمد الله فقد ظل آل الجميح ومن يُلِمٌّ بهم من أهلٍ وولدٍ وقريبٍ وداخِلةٍ مثالَ السمتِ والشرف؛ فلم يُطغِهم المال بسرفٍ أو تصرُّفٍ يُستكثر على أمثالهم؛ فالحمد لله على ذلك كثيراً.. ولآل الجميح حفظهم الله عناية بنشر الثقافة على مستوى كريم؛ لانشغالهم بما هو أهم من وجوه الخير؛ ولأنَّ هذه الأمور خدمها آخرون غيرُهم.
ومن بركاتهم حفظهم الله طبعهم لشرح الزركشي لكتاب الخرقي بتحقيق العلامة الشيخ عبدالله بن جبرين رحمه الله تعالى، وكتب أخرى كثيرة انتشرت في البلدان ونفع الله بها طلبة العلم.
قال أبو عبدالرحمن: وأذكر في يوم من الأيام ذهب الشيخ حمد بن عبدالعزيز بن عبدالله الجميح حفظه الله إلى أحد زعماء شقراء، وكان مريضاً يحمل علاجاً له من والده، وعندما دخل فسلم عليه وقرب منه: خشي أن يناوله الدواء من يده اليسرى، فسلم عليه باليمنى، ثم نقل الدواء من اليسرى إلى اليمنى وسلمه له، ودعا له بالشفاء العاجل باسم والده عبدالعزيز، وذكر له بعض محاسن الدواء.. وكان عنده كل من الشيخ (عبدالرحمن بن عبدالعزيز الحصين)، والشيخ (عمر بن عبدالعزيز الحصين)، والشيخ (إبراهيم بن عبدالرحمن الحصين) رحمهم الله تعالى جميعاً؛ فرفع رأسه إلى الشيخ حمد وقال: لا إله إلا الله.. ثم التفت على الحاضرين عنده، وقال: يا جماعة إنَّ الذي خلق هذا هو الذي خلق عيال آل الجميح وهم أهل نعمة ومواساة للناس.. وكانت حياتهم، ثم حياة محمد وأبناء أخيه إلى هذه اللحظة على سمت وتواضع وعدم اغترار بالمال والجاه.. ومع أنهم كانوا سبَّاقين لفعل الخير وَفْقَ بنودٍ وضعوها لذلك فإنهم كانوا شديدي التحرِّي لصحة الوقائع التي تقتضي صرفاً مالياً، ولا سيما بناء المساجد وتأثيثها، والجمعيات الخيرية، وشؤون الدعوة؛ ليَطمَئِنَّا على أن ما بذلاه صادف محلَّه من جهة الصحة والصدق وكون العمل مبروراً فعلاً.. وهذا شيءٌ لمستُه عندما شفعتُ عندهم لبعض المساجد والمبرَّات، وهكذا ما يفيض على يدي من صدقاتٍ منهم..
وفتحوا باب بيتهم بالبطحاء لكل وافدٍ ينزل عندهم حتى تيسرت حال المسلمين بالبيوت والقدرة على الفنادق..وفي أيام الصغر أيضاً ألَّفتُ كُتيِّباً اسمه (بين كميتٍ والملحاء) عن تاريخ الوشم؛ فأحاله الشيخ محمد بن عبدالله الجميح رحمه الله إلى الشيخ محمد بن إبراهيم البواردي رحمه الله ليصلحه، ولكن الخرق اتسع على الراقع؛ فصارحني الوالد الكريم محمد بن عبدالله الجميح: بأنني في سن الطفولة، وأنَّ الكتاب غير ناضج.. ولا سيما ما يتعلق بالشعر العامي وبعض الأحداث التاريخية غير المحققة، ودعمني مالياً للاستعانة بذلك في طلب العلم؛ فحمدتُ له أبوَّته وحسن مشورته.. ولو صدر الكتاب بوضعه آنذاك لندمت عظيم الندم.
قال أبو عبدالرحمن: هذه مشاعرُ طفيفة تدفقت من خاطري حباً لما جبلوا عليه من الخير والفضل والإحسان؛ وإلى لقاء قريب إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ.
** **
محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين