مشعل الحارثي
غيَّب الموت عنَّا يوم الخميس الماضي الشاعر سعيد بن حسين بن شايع الشعابي الحارثي عن عمر تجاوز المائة عام -رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه فسيح الجنان وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ورحم أخويه من قبل الشيخ حسن وعبدالرحمن-. والراحل عُرف بين الناس بطيبته وخلقه الكريم، وهو من شعراء النظم الشعبيين القدماء ممن عاصروا الرعيل الأول من شعراء قبيلة الشعاعيب وشعراء بني الحارث، وكان له حضوره في المحافل الشعبية وشعر القلطة والعرضة في منطقة ميسان بني الحارث وفي الطائف ومكة المكرمة، وله مشاركاته العديدة في برامج البادية بالإذاعة ثم بالتلفزيون السعودي منذ نشأتها والتي كان يقدمها آنذاك مطلق بن مخلد الذيابي ثم محمد بن شلاح المطيري، وبرفقة العم الراحل أحمد بن حامد العمراني الحارثي -رحمه الله- والذي كانت تربطه به صلة محبة وأخوة وصداقة قوية ومشاركة في هذه البرامج.
ومما حفظته الذاكرة عن هذا الرجل الذي كنت ألتقيه ما بين فترة وأخرى لدى أبناء الشيخ عبدالله المهنا رئيس بلدية الطائف الأسبق -رحمه الله ورحم أبناءه من بعده-، وكم كنت أشعر بسعادة غامرة حين أجده في هذا المجلس ونقضي معه ليالي السمر التي كان يملؤها علينا بتعليقاته المرحة وقصصه الجميلة وقصائده الحكيمة التي تدخل الفرح والبهجة في نفوسنا، وقد كان كذلك ومنذ أن عرفته في صغري يبهج المجالس بحضوره في مثل تلك الدعوات والمناسبات الخاصة التي كان يُدعى لها خصيصاً لينثر على الملأ من الحضور بعضاً من أحاديثه ومقابلاته مع الشعراء وشيئاً من أشعاره وخاصة في الحكم والمواعظ والتمسك بالقيم والشيم الفاضلة التي كانت تغلب على أسلوبه الشعري إلى جانب ما نظمه من قصائد في مدح ملوك المملكة والتي كان يتغنَّى بها على لون (المجالسي) اللون المفضَّل لديه.
ومما أذكره أيضاً وأنا أقلِّب أوراق الماضي أنه في عام 1373هـ رشحه شعراء الطائف وما حولها لإلقاء القصيدة الترحيبية بجلالة الملك سعود عندما قدم للطائف في الاحتفالات التي كانت تُقام كل عام ترحيباً بمقدمه الكريم، وفي العام الذي تلاه أي عام 1374هـ وابتهاجاً بقدوم جلالته للاصطياف بالطائف وقيامه في نفس هذا العام بزيارة قبائل بني الحارث ولقائه بشيوخها وأعيانها وجموع قبائلها وذلك في منطقة (غزايل)، ثم مواصلة جلالته رحلته إلى قبائل غامد وزهران قدَّم شاعرنا أهزوجة شعرية ترحيبية بمصاحبة الموسيقى وعلى لحن فن العرضة وقد قام بتلحينها وغنائها الموسيقار الراحل طارق عبدالحكيم -رحمه الله - وأذيعت في إذاعة المملكة العربية السعودية وسجلت آنذاك باسم (عرضة بني الحارث)، وقد قام كاتب هذه السطور بتوثيق هذه المعلومة شخصياً والحصول عليها من الأرشيف والملفات الخاصة للعميد طارق عبدالحكيم وبمساعدة ابنه سلطان وفيها يقول الشاعر سعيد الحارثي:
يا الله أنا طالبك يا رب السماء العالي
يا صاحب العفو على الطاعات تهدينا
قلته بعد زانت لي ردات الأمثالي
فأبو (فهد) حامي اوطانه وحامينا
أسد الجزيرة عريب الجد والخالي
شعب الشريعة وارجحنا الموازينا
هيبة على أهل المدن والمهجر الخالي
أعزك الله يا نسل السلاطينا
الماء نزل فارض اعشابها مالي
عمر جميع المساجد للمصلينا
حنا رعيتك لاجا حمل الأثقال
في ذا الزمن اموالنا والروح مصخينا
وأختم كلامي عد ماهل الآهلالي
يا رب الأرباب يا محصي ليالينا
وشاعرنا الراحل ومنذ بداياته الأولى نشر العديد من قصائده الاجتماعية بالصحف المحلية وفي الصفحات الأسبوعية التي كانت تهتم وتُعنى بالشعر والموروث الشعبي وشؤون البادية. وقد وجدت له وضمن أوراقي القديمة أيضاً هذه الأبيات من قصيدة يمتدح فيها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- والأسرة المالكة الكريمة من آل سعود وما حظي به أبناء البلاد ومواطنيها من أمن واستقرار وخير ونماء ويقول في بعض أبياتها:
سلام الله على نسل آل السعود
عدد طلع الثمر في كل عود
لأبو متعب عمى عين الحسود
عريب الأصل من جد وخالي
عريب الجد ما فيها شكوك
سلاطين العرب نسل الملوك
لكم تاريخ من جدك وابوك
بنشر العلم والحكم العدالي
بذلت المال لشعوبك بزود
وأمنت الرعية والحدود
عسى ربي يعز آل السعود
موامين العرب في أول وتالي
نبايعكم على نهج الكتاب
ونرجو الله في حسن الثواب
وحنا جندكم وقت الطلاب
ليا هبت صبا والا عوالي
كما وجدت له أيضاً هذه القصيدة ضمن مجموعة من قصائده الأخرى التي يوصي فيها ابنه الأكبر حسين بالتحلي بمكارم الصفات والتمسك بالقيم والشيم والعادات الأصيلة والأخلاق الكريمة التي دعا إليها الدين الإسلامي الحنيف وفيها يقول:
الا يا الله يا منشي السحاب
عليماً بالخطايا والصواب
تسامحني ليا جاني الحساب
طلبتك يا محل المكربات
طلبتك وأنت علام الغيوب
الا يا الله على عبدك تتوب
ويا عالم خفيات القلوب
تثبتنا على قول الثبات
أنا بأوصيك يا بني يا حسين
بتقوى الله وبر الوالدين
وخلك حلية الحصن الزبين
ولا تترك جميع الموجبات
ترى للجار عند الطيبين
مكانة باقية طول السنين
بها أوصانا نبي المرسلين
وعادة للرجاجيل الثقات
وضيفك كمله في كل حال
كمولة من ملازيم الرجال
ورحب به على طيب وقبال
وتحماه الحلال الراسيات
ولا تنسى الخوي علمه كبير
توفي لازمه مهما يصير
كمال ومال وشوير
كماله من كبار الوافيات
وأنا بنصحك عن شور البخيل
تحذر عنه جيل بعد جيل
وبيت البخيل ما يكسب جميل
مذمة في الحياة وفي الممات
وربعك لو حصل منهم زهوق
تداريهم ولا تغدي حموق
وخلك في محبتهم شفوق
ولا تبدي بهم ريع الشمات
وحذار السر تعطيه الرخوم
تحول به حراج لمن يسوم
تعرض للبراد وللسموم
هدفك أصبح غلط والسر فات
ولا تسمع لمن ودا وجاب
تحذر عنه جيل بعد جيل
يصور بيت لك من غير باب
ترا النمام فيده مشكلات
يقول اللي بدع زين المثول
يقدمها على أصحاب العقول
ختام القول صلوا على الرسول
حبيب الله سيد الكائنات
ولصاحب هذه السطور رجاء لأبنائه الكرام في الاهتمام والعناية بحفظ نتاج والدهم التراثي وجمع كل قصائده المتناثرة هنا وهناك والتي تمثِّل مجتمعةً جزءاً من تاريخ التراث الشعبي الثري لمنطقة ميسان بني الحارث، وما ساهم به شاعرنا الراحل ومنذ الثمانينات الهجرية في التعريف بالمنطقة وتراثها من خلال وسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمقروءة والمرئية.
وكما طلب شاعرنا الراحل سعيد الشعابي الحارثي في مستهل قصيدته الأخيرة من رب العزة والجلال أن يسامحه ويثبته على قول الحق والثبات، فنحن وكل من يقرأ هذه السطور نسأل الله له واسع الرحمة والمغفرة والقبول الحسن وأن يجزيه عنَّا وعن كل مَن عرفه خير الجزاء، وأن تغشى رحمات ومغفرة رب العالمين جميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، والعزاء موصول لأبنائه الأعزاء حسين، ومهدي، وعلي، ولابن أخيه فضيلة الشيخ عبدالله بن حسن الحارثي القاضي الأسبق بمحكمة الطائف ولأبنائهم ولذوي شايع خاصة ولقبيلة الشعاعيب كافة، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.