د.سالم الكتبي
تشير معظم الشواهد والمؤشرات إلى أن حرب أوكرانيا قد دخلت مرحلة «كسر عظام»، وأن الأزمة لن تشهد تسوية تفاوضية على الأقل في غضون المدى المنظور، بل إن الترجيحات تتجه إلى تصاعد في العمليات العسكرية خلال الفترة المقبلة على قاعدة الإمدادات العسكرية الغربية المتزايدة التي تتجه إلى أوكرانيا.
الرئيس الأوكراني زيلينسكي يقول إن الدبلوماسية وحدها هي التي يمكنها إنهاء الحرب، ولكنه يعود ويطالب روسيا بالعودة إلى نقاط تمركزها عسكريًا قبل الحرب، وهو موقف يتماشى بشكل أو بآخر مع موقف كل من الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين تسعيان إلى إضعاف روسيا بشكل نهائي ويعلنان بكل صراحة أنه لا يجب السماح لروسيا بأن تنتصر. والبعض يقول إن المفاضلة الآن لإنهاء هذه الحرب هي بين الأرض والبشر، بمعنى أن ثمن التسوية هل يكون أرضًا أم مزيدًا من الضحايا؟ والحالتان أسوأ من بعضهما وتبدوان مفاضلة بين سيئ وأسوأ، أو بين شرين مستطيرين!
أحد أهم الأمور التي تعطل الوصول إلى سيناريو نهاية هذه الحرب هو رغبة القوى الكبرى في استكشاف حدود القوة الروسية التقليدية من جهة، وتجريب تكتيكات وخطط حروب المدن الجديدة من جهة ثانية، فلا ينكر أحد من المراقبين أن أداء الجيش الروسي في هذه الحرب يمثل أحد أبرز نقاط الاهتمام لدى الدوائر الغربية، وأن أداء القوات الأوكرانية بقدرتها على القتال على الرغم من محدودية تسليحها يثير اهتمام المخططين العسكريين أيضًا، إذ لا يُخفى أن الحروب غير التقليدية باتت أحد أخطر التحديات التي تواجه الجيوش الحديثة، والكل يرغب في التعرف إلى العوامل المؤثرة في هذه الحروب وكيفية إدارتها والتحكم في مساراتها، حتى إن هناك من يقول إن الكثيرين في الغرب ينتظرون معركة كييف ويدفعون باتجاه حدوثها، لمراقبة أداء القوات الروسية في معركة كبرى كهذه، ومناظرة تطور الأمور عسكريًا في حروب المدن وتجريب التكتيكات الدفاعية التي يمكنها وقف زحف جيش كبير بحجم الجيش الروسي، وكلها أمور مهمة ليس فقط للولايات المتحدة التي تعطي أولوية قصوى لهزيمة روسيا وإراقة ماء وجهها، ولكن أيضًا للجيوش الأوروبية التي تتحضر لظروف مماثلة قد تتعرض لها تحت أي ظرف من الظروف الجيوإستراتيجية، ولاسيما أن حرب أوكرانيا قد أثارت مخاوف الجميع خصوصًا في دول شرق أوروبا التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي السابق.
بالإجمال الغرب، أو شريحة كبيرة منه، يراهن على إبقاء المعركة لأطول مدى زمني ممكن، لإنهاك روسيا وترقب احتمالية تغير النظام في الكرملين وتكرار سيناريو الانسحاب من أفغانستان في عام 1989.
إجمالاً أيضًا لا تبدو حرب أوكرانيا خارج السيطرة، ولم تخرج إلى سيناريو «مجنون» فروسيا تتحسس خطاها جيدًا، ولا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع حلف الأطلسي (الناتو)، والغرب كذلك يتجنب التورط في مواجهة مباشرة معها، ولكنّ الطرفين يتمسكان بتحقيق أهدافهما الإستراتيجية، التي تبدو متباينة إلى حد ما بالنسبة للحلفاء الغربيين. ومع ذلك لا يمكن اعتبار هذه الأحكام قطعية أو نهائية، فالرئيس بوتين يتحاشى المساس بسيادة دول أخرى سواء كانت ضمن أعضاء حلف الأطلسي أم لا، ويتعامل بحذر شديد في مسألة إمداد الغرب أوكرانيا بالأسلحة ولم يتعامل مع الأمر بعد باعتباره «عدوانًا يستحق الرد» كما تحذر موسكو دومًا. ولكن هذا الموقف قابل للتغير في حال استشعر الكرملين أن هذه الامدادات قد تتسبب في تعرض الجيش الروسي للانكسار في أوكرانيا.
أعتقدُ ومن وجهة نظري أن الطرفين، الروسي والغرب، لم يصلا بعد للنقطة التي يمكن عندها الاقتناع بضرورة تقديم تنازلات متبادلة لحفظ ماء وجه الطرفين، وهذه النقطة تبدو بعيدة للغاية بالنسبة للغرب الذي تدور المعركة على أرض ليست بعيدة عنه ولكن لا يمكن اعتبارها كذلك جزءًا منه حتى الآن، على الأقل رسميًا، فأوكرانيا ليست عضوًا بالتكتل الأوروبي (الاتحاد)، وليست كذلك عضوًا بالتحالف العسكري الغربي، وبالتالي فالغرب يبدو وكأنه يخوض حربًا بالوكالة ضد خصم إستراتيجي عنيد، حيث يعتقد الكثيرون هناك ضرورة استغلال الفرصة للإيقاع بالدب الروسي أو تحجيم خطره على أقل التقديرات، وهذا مايفسر إحجام العواصم الغربية ـ حتى الآن ـ عن تشجيع أوكرانيا على التسوية السياسية أو على الأقل الكف عن صب الزيت على نار الحرب، ناهيك بتقديم حلول ومقترحات دبلوماسية يمكن أن تُسهم في التوصل إلى حلول تفاوضية.
الخلاصة في كل ما سبق أن الدبلوماسية لم تفشل بعد في أوكرانيا لأنها ـ ببساطة شديدة ـ لم تختبر جديًا، وما جرى من جولات تفاوضية بين روسيا وأكرانيا لم يكن متوقعًا لها النجاح في تسوية الأزمة، وبالتالي فإن الأمر يبدو مرهونًا بوصول الأطراف جميعها إلى قناعة بأن الوقت قد حان للخروج من هذه الأزمة سواء من خلال صفقة قائمة على الندية أو إقرار طرف ما بانتهاء فرصه في تحقيق أي مكسب على الصعيد الميداني.