مرت 23 سنة على فراقك ولا زال يتسع حضورك يا أبي كلما امتد زمن الغياب، تطل علينا من التفاصيل، كبيرها وصغيرها، تبحث عما زرعته في دنياك ليبقى أخضر يانعاً نستظل به، ما خلفته وراءك مما بنته يداك ليظل شاهد حق، وتمضي كنسمة ريح في ظهيرة قائظة.
في طلاتك عودة لما غاب عنا من تركة، لا نكل في السعي للإحاطة بكثيرها، نستمد منها ما يعيننا على دنيانا، تزودنا بما نحتاجه عند ملاقاة الباري عز وجل، وفيها مسك ختامنا.
وصاياك بين طلة وأخرى حساب للنفس على ما فعلت، عتاب لها على ما لم تفعل، عملاً بقول سيد المرسلين- صلى الله عليه وسلم- «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» الذي اعتدت ترديده على مسامعنا صغاراً، ولم تكف عن تذكيرنا به حتى أيامك الأخيرة بيننا.
لم تغب عنا يوماً آيات الحق يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ، كما كنا نسمعها في أوقات خشوعك لرب العباد ونرددها خلفك لتصير وشما في ذاكرة حية لا تنطفئ.
للجار نصيب من وصاياك يا أبت، حفظناها عن ظهر قلب، كما حفظت من قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اسمع وأطع ولو لعبدٍ مجدّع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منه بمعروف، وصلَّ الصلاة لوقتها وإذا وجدت الإمام قد صلّى فقد أحرزت صلاتك وإلا فهي نافلة» ليكون نوراً نهتدي به.
تقربت من الناس لإرضاء خالقنا، متبعاً قول رسولنا: «أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني ألا أسأل أحداً شيئاً، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مُرّاً، وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أُكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن من كنز تحت العرش» الذي اعتدنا سماعه منك، ما انقطعنا عن ترديده، وسيبقى بإذنه تعالى دليلاً لنا ما حيينا.
حياتك سفر حسن خصال، التقطنا منها تجنبك ما نهانا عنه سيد الخلق- صلى الله عليه وسلم- «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ مسلم من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه» وكان في قوله- صلى الله عليه وسلم- خارطة طريق لأتباعه المؤمنين.
نعود إليك يا أبت، لنتقي زلل الخطى عند الوقوف على مفارق الطرق، نجد في سيرتك المشبعة بعطر الإيمان ما يعصمنا عن المعاصي، ويجيب على ما استعصى من الأسئلة، ندعو لروحك بالرحمة والمغفرة، ليكون مثواك الجنة، مع الصديقين والصالحين.
** **
- فيصل الحمود المالك الصباح