د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
يواجه العالم عدة أزمات تتطلب جميعها حلولاً مختلفة، لكن السعودية تمر بمرحلة زخم إصلاحات ركزت على إصلاح النماذج الاقتصادية من أجل تحقيق هدف تنويع مصادر الدخل، وشاركت العالم تداعيات الاحترار المناخي بمبادرة السعودية الخضراء، واتجهت نحو توظيف حرب أوكرانيا التي شكلت صدمة للاقتصاد العالمي والنظام الدولي، وكذلك استثمرت جائحة كورونا وغيرت كثيراً من أنماط الاقتصاد المحلي، واستثمرت الأحداث الأخيرة في الصين بمقاربات تستثمر موقعها اللوجستي لتستعيد المكانة التاريخية.
تستثمر السعودية الفجوة الواسعة التي برزت في العولمة بين الناشطين البيئيين وراسمي السياسات، ومنتدى دافوس الذي أسس منذ عام 1971 في دافوس الذي اعتمد على أسس العولمة، وروج على مدى عقود لمبادئ التجارة الحرة ورأسمالية أصحاب المصالح الذي يحث الشركات على مراعاة بيئتها ومجتمعاتها، كذلك حاولت منتديات دافوس التي تمثل العولمة التأقلم مع التغيرات الجيوسياسية لتقريب وجهات النظر، فكانت دافوس أيضاً المنصة التي اختارها شي جينبينغ لتقديم نفسه مدافعاً عن العولمة والتبادل الحر في وقت بدأت الولايات المتحدة متخلية عن هذا الدور.
لكن في منتدى هذه السنة 2022 لن يحضر زعماء الولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا، فيما استبعدت روسيا، وسيقتصر التمثيل الأميركي بوفد يقوده المبعوث لشؤون المناخ جون كيري، وكذلك بريطانيا، وحتى الصين، وكان المنتدى أصبح منتدى المناخ، رغم ذلك فهو فرصة سانحة للسعودية الناشئة، خصوصاً وأن جائحة كورونا حولت المدافعين عن الرأسمالية لسياسات الحمائية على حساب حرية التنقل والتبادل الحر، كما فرضت حرب أوكرانيا واقعاً جديداً، فلم تنجح العولمة في توحيد العالم، ولم يضمن ترابط الاقتصادات العالمية مرونة سلاسل الإمداد.
لذلك عقد منتدى دافوس هذه المرة تحت شعار ( التاريخ عند مفترق الطرق)، أي أنها أول قمة تجمع القادة في ظل واقع جديد متعدد الأقطاب أفرزته الجائحة وحرب أوكرانيا.
وبعد أعوام من التضخم الفاتر، وتكاليف الاقتراض بالغة الانخفاض، أصبح صانعو السياسة لا يعرفون بشكل قاطع أي مستوى هو سعر الفائدة المحايد، فمنذ 1960 حتى الآن انخفض ( إس آند بي 500 ) 400 مرة لمدة خمسة أسابيع متتالية، في المقابل انخفضت السندات الحكومية 31 مرة منذ 1973، فالكآبة تعم الأسواق، خوفاً من انفجار الفقاعات بطرق عنيفة، بسبب أن انهيار الأسهم والسندات معاً، مشهد غير مألوف.
أعطت الأزمة الأوكرانية الروسية درساً للسعودية أن تمسكها بالحياد الإيجابي في العلاقات بين طرفي الصراع خدم المصالح السعودية، يمكن أن تستثمر السعودية عملاقي التجزئة وول مارت وتارجت الهدف بسبب التحول في سلوك المستهلك، فالتراجع في نتائج وول مارت وتارجت يعكس تحولاً في سلوك المستهلك، حيث كانت المبيعات متواضعة ومستويات المخزون آخذة في الارتفاع، بسبب أن الولايات المتحدة في أقصى الغرب رغم أنها قارة، بينما السعودية مكانها يقع في موقع لوجستي لا تحتاج إلى مخزونات استراتيجية كبيرة، بسبب موقعها المتوسط الذي يمكن أن تستثمر ميزاتها النسبية.
بدأت رؤية المملكة الإصلاحية تحقق نتائج عالية جداً، فللربع السابع على التوالي يدعم من استمرار المستويات المرتفعة لأسعار البتروكيماويات السعودية التي حققت إيرادات فقط في الربع الأول من عام 2022 نحو 82 مليار ريال أي أن دخلها السنوي أكثر من 300 مليار ريال، وستتضاعف إذا ما دخلت في صناعات تحويلية يمكن أن تكون نواة في تأسيس قاعدة صناعية إقليمية وعالمية واسعة على غرار مصنع السيارات الذي وقعته السعودية مع شركة لوسيد لبناء أول مصنع لها في السعودية بطاقة 155 ألف سيارة سنوياً، وهي ضمن أكبر 7 شركات سيارات كهربائية في العالم، كذلك يمكن أن تتوسع السعودية في الصناعات الغذائية لأن سابك تنتج مغذيات زراعية، والسعودية بجوار قارة أفريقيا التي تنتج منتجات زراعية وحيوانية يمكنها استثمار مناطق واسعة خصوصاً في الدول المستقرة، وهي استراتيجية سعودية خليجية.
لذلك يمكن أن تشارك السعودية في عولمة متعددة الأقطاب على أنقاض عولمة متطرفة سادت في العقود الماضية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي التي تسببت في الأزمة المالية عام 2007 - 2008، وبعد أزمة جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا توقفت سلاسل القيمة العالمية عن الانتشار، واكتسب الساسة الشعبويون الذين يعادون العولمة المفرطة قدراً أكبر من النفوذ في الاقتصادات المتقدمة، وهو ما نلاحظ غلبة اقتصاد المناخ على منتدى دافوس 2022 على حساب بقية القطاعات الاقتصادية المهمة، وعلى رأسها القطاعات الإنتاجية الغذائية والصحية، وكأن العولمة تحولت من وطأة تناقضاتها بين المكاسب التي تجنيها من التخصص والمكاسب التي جلبها التنوع الإنتاجي، إلى وطأة متطرفة تركز على اقتصاديات المناخ فقط.
فيمكن للسعودية أن تستثمر تلك التناقضات، وتتجه نحو المشاركة في إنتاج ما تنتجه الدول الأكثر ثراءً، والمشاركة في إعادة كتابة قواعد العولمة، باعتبار أن المنافسة الاستراتيجية تأكيد ذاتها على واقع الاقتصاد العالمي.