د.عبدالله بن موسى الطاير
ربما شجّع ظرف اللحظة السياسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر على مواجهة التيار في رؤيته للحرب الروسية الأوكرانية، فربما لو لم يكن كيسنجر قد بلغ من العمر عتيا، ولم يعد يفكر في كثير من مصالحه الشخصية أو آفاق مستقبله السياسي، لما كان بتلك الجرأة التي يطالب فيها أوكرانيا التنازل عن جزء من أراضيها من أجل أن يعم السلام أوروبا.
الدبلوماسي الأمريكي الكبير يحذر من «مزاج اللحظة» الذي يحشد كل مقوماته العسكرية وقدراته وأدواته في الحصار الاقتصادي ضد روسيا من أجل إلحاق الهزيمة بالرئيس بوتين. وقد حذرت سابقاً، وفي هذه الزاوية من مغبة إذلال روسيا، وأشرت إلى عواقب إذلال الدول وحروب الانتقام التي نجمت عنها.
ومثل كيسنجر الكثير من الأوروبيين وبخاصة اليمين الذي لا يحبذ التدخل في شؤون الآخرين لفرض الديموقراطية الليبرالية، ولكنهم إما خارج السلطة أو يفتقدون لوسائل الإعلام واسعة الانتشار التي تعبر عن مواقفهم الحقيقية من الحرب، كما أنهم يمارسون التقية السياسية حتى لا يصبحوا هدفا للإعلام المضاد. ولكن إلى متى سيبقى الأوربيون موحدين تحت تأثير «مزاج اللحظة».
روج الأمريكيون والبريطانيون تحديداً لحرب خاطفة تشنها روسيا فتستولي على كييف خلال أسبوع وعلى عموم أوكرانيا خلال شهر، وربما اندفع الرئيس بوتين بجيشه نحو تحقيق هدف، تعذر بعد ذلك تحقيقهن فانسحب بعد خسائر كبيرة وأعاد تموضعه في الأقاليم الشرقية والجنوبية الشرقية في محاولة لاقتطاع إقليمي دونباس ولوغانسك من أوكرانيا وإلحاقهما بشبه جزيرة القرم. يبدو أن روسيا مقتنعة أنها لن تتجاوز هذين الإقليمين وستكون حرباً طويلة بمقدور روسيا الدفاع عنها ولو اجتمع في حربها حلف الناتو أجمعين.
لا أحد يتجاهل أثر العقوبات الأمريكية والدول الليبرو- ديموقراطية على الاقتصاد الروسي، ولكن يبدو واضحا أن الاقتصاد الروسي يدخل الشهر الرابع متماسكا، وأن العقوبات ستأخذ مدة أطول للتأثير على الروس، وربما يتأثر العالم أجمعه بالأزمات الناجمة عن تعثر الإمدادات الغذائية، قبل أن تبدي روسيا معاناتها من العقوبات.
وواضح أن موسكو تتطلع لرؤية المزيد من الانقسام بين الحلفاء في الناتو، وتنتظر أن تلمس فتوراً في مواقف الدول الأوروبية، خاصة وأن اللاعبين الرئيسيين هما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اللتان وصلت نسب التضخم فيهما إلى معدلات غير مسبوقة، مما سيفقد الحزبين الحاكمين في لندن وواشنطن الزخم الشعبي في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة سواء أكانت برلمانية أو رئاسية.
واضح أن روسيا والدول «غير الصديقة» سيضاعفون الجهود في أشهر الصيف، فروسيا تدرك أن صمودها إلى حلول فصل الشتاء سيعطيها ميزة إضافية عندما تبدأ فرائص الغربيين ترتعد من البرد، ويكون الأمل الوحيد في الدفء قادم من روسيا، وفي مقابل التكتيك الروسي، ستحشد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والصقور في الاتحاد الأوروبي الإمدادات والعتاد العسكري لتتمكن أوكرانيا من إلحاق الهزيمة بروسيا قبل الشتاء، وهو أمر يبدو متعذراً.
وعلى أية حال فيبدو مع المتغيرات التي توالت منذ 24 فبراير 2022م أن مصير الأزمة إلى التفاوض، وأن الحرب ستضع أوزارها، ولكن أوكرانيا لن تستعيد أيا من أقاليمها الشرقية (القرم، دونباس، ولوغانسك)، وسيطوي الزمن هذا الخلاف في ملفات الأمم المتحدة ودهاليز التفاوض التي لا تؤدي إلى شيء.
وبدون شك فإن حسابات الأيام الأولى لاندلاع الحرب قد تبدلت؛ فروسيا ماضية في ترتيب عالم مع بعد الحرب، وهذه الحرب لن تكون نشازاً عن حرب 2014م، ولكن يكتنف الاطمئنان للمصير المحتوم دخول متغير غير متوقع يخلط أوراق الطرفين، كدخول دولة من دول الناتو الحرب فجأة، أو الدفع بسلاح غير تقليدي إلى ميدان المعركة من قبل أي من الطرفين، مما يؤدي بالضرورة إلى توسع رقعة الحرب ونشوب حرب نووية. فيما عدا ذلك ستدخل هذه الحرب في منحنى الحروب التقليدية ونهاياتها المعتادة.