عبدالرحمن الحبيب
خلقت العولمة فرصًا كبيرة وانتشلت الملايين من براثن الفقر، لكنها أيضاً أدت إلى عدم المساواة والاضطراب الاقتصادي وانعدام الثقة في ترابط الاقتصاد بين الدول، مع تهديدات مثل حرب المعلومات والحرب الإلكترونية والصراعات الاقتصادية. أدى ذلك إلى تحول العديد من البلدان إلى الداخل بحثًا عن استراتيجيات جديدة لزيادة الأمن والتماسك الوطني، ولم تعد العولمة مقبولة بوضعها الحالي؛ فالعالم يدخل مرحلة جديدة من التقلب الاقتصادي المتزايد، والاستقطاب في الاقتصاد العالمي، وإعادة الضبط الهيكلي للنظام العالمي..
بعد توقف منتدى دافوس لمدة عامين بسبب وباء كورونا، اجتمعت نخبة عالمية في الاقتصاد والصناعة بسويسرا، لحضور هذا المنتدى الاقتصادي العالمي وقد سيطر موضوع مستقبل العولمة بعد الوباء، والحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، واضطرابات سلسلة التوريد، وأزمة المناخ، التي شكلت تحديات تهدد بزعزعة استقرار العولمة.
كيف ينبغي أن يبدو مستقبل العالم الاقتصادي؟ هل سيسود منطق اندماج الأعمال التجارية بين الدول في مواجهة التجزئة والانقسام نتيجة الخلافات الجيوسياسية؟ إنه معطف حاسم بين التكامل أو العزلة مما سيشكل مصير مستقبل العولمة الاقتصادية. بطبيعة الحال وجهات نظر متباينة، مع إجماع قوي بين المشاركين على التشرذم العالي للسلع والتكنولوجيا وأسواق العمل.
أصدر منتدى دافوس تقرير «الكتاب الأبيض» كمستند تعريفي يوضح كيف يمكن أن تتغير طبيعة العولمة عندما تختار القوى الاقتصادية مسارها في كل من الحيز المادي والافتراضي؛ داعياً صانعي السياسات إلى اتخاذ «إجراءات حكيمة».
التقرير بعنوان «أربعة مستقبلات للعولمة الاقتصادية: سيناريوهات وانعكاساتها» باستخدام مصفوفة 2 × 2 الهيكلية بهدف الحوار لتوفير إطار عمل مبسط يحدد المسارات المحتملة للاقتصاد العالمي.. هذه السيناريوهات لا تهدف إلى التنبؤ بالمستقبل ولكن إلى تقديم لقطات مستقبلية محتملة. وبالتالي ينبغي اعتبارها كأداة داعمة مفيدة للتفكير في الاتجاهات والشكوك والفرص والمفاضلات وتوجيهها، ولتحديد الإجراءات التي يمكن اتخاذها لدعم قرارات ونتائج أفضل للمستقبل.
تشير المقدمة إلى أن اشتداد التنافس بين المراكز العالمية الرئيسية للثقل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاضطرابات المذكورة سابقاً تدفع نحو تفكك الاقتصاد العالمي. لكن المنافسة لا تقتصر على الجغرافيا لأنها تتوسع في الفضاء الافتراضي وتنعكس على السيطرة على شبكات التكنولوجيا والمعلومات. كما أن التسييس المتزايد للتكنولوجيا، قد يشكل تحالفات استراتيجية جديدة من خلال التقارب في القيم وقابلية التشغيل البيني الاقتصادي والرقمي بدلاً من الجغرافيا وحدها.
السيناريو الأول: إعادة تواصل العولمة. رغم تعافي التكامل الاقتصادي العالمي وسلاسل التوريد وزيادة نقل البيانات والابتكار والسلع والخدمات بعد اضطرابات كورونا، فثمة اتجاه واضح للابتعاد عن عولمة الماضي، حيث تستثمر البلدان في دعم أكبر للعمال المحليين، وإعدادهم للمنافسة في السوق العالمية. كذلك فإن سلاسل التوريد تتوجه لتكون أكثر محلية وأكثر تسييسًا، حيث أصبحت البلدان والشركات متعددة الجنسيات حذرة من العودة إلى التوريد والتوزيع السابقين من أجل تحقيق توازن بين سلاسل التوريد المحلية والإقليمية والعالمية. كما زادت المنصات التكنولوجية من انتشارها العالمي، مع اتفاقية الضرائب العالمية التي حفزت تعاونًا أكبر بين البلدان. والخلاصة أن التكامل الاقتصادي يعمل على تذكير القوى العالمية بالمكاسب التي يمكن جنيها من التعاون المستمر.
السيناريو الثاني: تكامل مادي وتجزئة افتراضية. رغم تنشيط التكامل المادي من خلال استئناف التجارة في السلع، وإدراك الحكومات فوائد التعاون في الغذاء والوقود فإن احتدام السباق التكنولوجي ومخاوف الأمن السيبراني والاستياء من المنافسة والاعتبارات الثقافية والأمنية وزيادة خطر المعلومات المضللة أدى إلى رد فعل عنيف ضد المنصات الرقمية العالمية وشركات التكنولوجيا، التي يُنظر إليها على أنها مصادر لزيادة نقاط الضعف والتباعد. في هذا السيناريو سيتم تقييد إمكانية التشغيل البيني للتكنولوجيات والحد من تقاسم بروتوكولات الإنترنت.
السيناريو الثالث: نقيض الثاني، تكامل افتراضي وتجزئة مادية. ازدادت الحمائية من توطين التصنيع وتقديم الإعانات وقيود الاستيراد والمنافسة على الغذاء والطاقة والسلع الأخرى.. بالمقابل تضاعفت المنصات التكنولوجية وخدمات الإنترنت، مع تزايد أهميتها الاقتصادية والسياسية. كما اتفقت العديد من الاقتصادات الكبرى على أطر ضرائب الخدمات الرقمية، وأنظمة الأمن الإلكتروني والخصوصية.. والتعاون في البيانات والبحوث. في هذا السيناريو ستكون المنافسة قوية لتقديم أفضل الخدمات في بعض البلدان؛ أما في بلدان أخرى، ستشكل أكبر المنصات هيمنة عالمية، وتثير مخاوف سياسية ومجتمعية بشأن القوة غير المنضبطة وتركيز حصص السوق على عدد محدود من الشركات..
السيناريو الرابع: نقيض الأول، عالم الاكتفاء الذاتي. هنا يتم تحويل الانتباه إلى الداخل، وفرض قيود على تجارة السلع والخدمات، وتباطؤ تدفقات رأس المال والاستثمار عبر الحدود. كما ستسعى البلدان إلى مزيد من السيطرة على المعلومات والتكنولوجيا والمعرفة، والرقابة على الإنترنت وعلى الاقتصادات الداخلية، وتزداد المعلومات المضللة. في هذا السيناريو تنخفض مستويات المعيشة وتقل شبكات الأمان، نتيجة السعي لتقليل التبعيات الخارجية، وتمتد صدمات الأسعار، وزيادة عدم الاستقرار السياسي وزيادة الإنفاق الدفاعي.
من الواضح أن طرح السيناريوهات بهذه الصيغة يعني أنه من الحكمة اختيار الأول، أي تجديد العولمة عن تلك القديمة، وهذا متوقع من منتدى يعد رمزاً من رموز العولمة، لكن لن يمر ذلك دون تحد واعتراض سيتناوله المقال القادم..