الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
اهتم الإسلام بشأن الصحة اهتماماً بالغاً تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، وهناك آداب وسلوكيات أمرنا بها الإسلام في سنة رسول الله وهي خير وفضل للناس إن اتبعوها. والشراهة أو النهم في المأكل والمشرب منهي عنه، وله عواقب وخيمة وخطر على صحة الإنسان.
"الجزيرة" التقت مع مجموعة من المختصين في العلوم الشرعية والطبية ليتحدثوا عن المنهج الشرعي في التحذير من الإفراط في الطعام والشراب، والرؤية الطبية حول ذلك، وفق تخصص كل واحد منهم، فماذا قالوا؟
التوسط والاعتدال
يقول الدكتور مقبل بن مريشد الحربي الأستاذ بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: خلق الله الإنسان ضعيفاً، ودل سبحانه على ضعفه وعجزه حاجته للطعام والشراب، وأنه لا غنى له عن خالقه عز وجلّ الذي خلقه وخلق له ما يكون السبب في بقائه واستمرار حياته {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}، فأبدع الله تعالى له صنوف الطعام وعدَّد أنواعه -فله الحمد والمنة- وأباح له من الطعام والشراب ما كان له نافعاً وحرم عليه ما كان لجسده وعقله ضاراً، فأباح الله للإنسان أكل الطيبات من الرزق وحرَّم عليه الإسراف والإفراط حتى في المباح. والنهم والإفراط من أسباب إضرار الإنسان بنفسه {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. والاعتدال في المأكل والمشرب وتجنب الإسراف أمر مطلوب، قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، إذ الإسراف مجاوزة الحد في الشيء عن الحد الطبيعي، ومن ذلك الإفراط في تناول الطعام والنهم في المأكل والمشرب، إذ هما من أسباب زيادة الوزن والسمنة المفرطة، وارتباط كثير من الأمراض الفتاكة بهما كمرض السكري وأمراض القلب والشرايين وشحوم الكبد وغيرها؛ فبدل أن يكون الطعام غذاءً ودواء صار أمراضاً وأدواء. وإذا بلغ الأمر إلى الحد الذي يخاف منه إلحاق الإنسان الضرر بنفسه فإنه عندئذ يحرم عليه ما يؤدي إلى الضرر وأسبابه، قال شيخ الإسلام -رحمه الله: "وإذا خاف الإنسان من الأكل أذًى أو تخمة حَرُمَ عليه". والتوسط والاعتدال في كل شيء أمر مطلوب وندب إليه الشرع المطهر، ويظهر ذلك جليًا في الحديث التالي: قال عليه الصلاة والسلام: (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". رواه الإمام أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن، وصححه الشيخ الألباني، وقال طبيب العرب الحارث بن كلدة: (الحمية رأس الدواء، والمعدة بيت الداء). ومن الحمية الصوم، قال ابن القيم: والأزم: -الإمساك عن الأكل يعني به الجوع- وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الامتلائية كلها بحيث أنه أفضل في علاجها من المستفرغات.
وقد ورد في الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كف عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة"، رواه الترمذي-وحسنه- وابن ماجه.
وأحياناً قد يكون سبب الإفراط في الأكل كثرة الأكل المقدم على سفرة الطعام فيُرغم نفسه على الأكل بعد امتلاء معدته وفي هذا محذور من وجهين:
الأول: أنه زاد في وجبة الطعام ما يزيد عن الحاجة وهذا إسراف لاسيما وإن كان مصير الطعام صناديق النفايات.
والثاني: أكل فوق طاقته فأضر بصحته، قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
المخاطر الصحية
ويبين الدكتور شاكر بن عبدالعزيز العُمري استشاري طب الأسرة، مدير عام البرامج الصحية والأمراض المزمنة بوزارة الصحة: أن الإفراط في تناول الطعام والمشروبات المحلاة بالسكر خصوصاً من أهم عوامل الخطورة للإصابة بزيادة الوزن والسمنة، حيث يبدأ الجسم بتخزين السعرات الحرارية الفائضة على شكل دهون.
وقد أثبتت الدراسات الطبية بوجود ارتباط كبير بين السمنة والعديد من الأمراض المزمنة ومنها على سبيل المثال داء السكري وارتفاع ضغط الدم، وأمرض القلب والشرايين وتآكل والتهاب المفاصل وصعوبة التنفس خاصة أثناء النوم وارتجاع حامض المعدة إلى المريء والاكتئاب وانخفاض الخصوبة واضطرابات الدورة الشهرية لدى السيدات، كما أنها تعتبر عامل خطورة الإصابة ببعض الأورام مثل: أورام الرحم وسرطان الثدي بالإضافة إلى أورام القولون وغيرها من الأمراض الأخرى، مشيراً إلى أن الإفراط في تناول الطعام يؤدي إلى العديد من الأضرار والتأثيرات على الصحة، إذ يمكن أن تكون مباشرة وقصيرة الأجل، ولكن الاستمرار بهذه الممارسة يولد آثاراً طويلة الأمد على الصحة، ومن هذه الآثار الشعور بالانزعاج، أي عندما تمتلئ المعدة تستمر بالتوسع لاحتواء الطعام الإضافي، وهذا ما يسبب الضغط على الأعضاء المحيطة بها ويولد لدى الشخص الشعور بالانزعاج وعدم الراحة، كما يسبب الإفراط في تناول الطعام الخمول والكسل حيث تتباطأ حركة الجسم ويصبح التركيز منصباً على عملية الهضم.
ويضيف الدكتور شاكر العمري قائلاً: ومن التأثيرات أيضاً الإحساس بحرقة وحرارة في البطن حيث تتضمن عملية الهضم إنتاج الجسم للحمض، وعندما تكون المعدة ممتلئة جداً يمكن أن يخرج هذا الحمض إلى المريء ويسبب حرقة المعدة والمريء.
الاعتدال وعدم الإفراط في تناول الطعام مهم جداً للمحافظة على الصحة، وقد حثنا ديننا الحنيف على ذلك في الآية الكريمة في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (26) سورة الأعراف، وفي الحديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم أُكلات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثُلثٌ لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه)).
النهم العصبي
ومن الناحية النفسية يعرِّف الدكتور عزت عبدالعظيم استشاري الطب النفسي: النهم العصبي بأنه متلازمة مرضية تتميز بنوبات متكررة من الإفراط في الأكل وانشغال شديد بالتحكم في وزن الجسم، يؤدي بالمريضة إلى نمط من الإفراط في الأكل يليه قيء أو استخدام الملينات، ويشترك هذا الاضطراب في كثير من السمات النفسية مع فقدان الشهية العصبي بما فيها الاهتمام الشديد بشكل ووزن الجسم.
وبناء على دليل التشخيص الإحصائي للأمراض النفسية والعقلية الأمريكي DSM IV يمكن تشخيص اضطراب النهم العصبي وذلك على النحو التالي:
(1) حدوث نوبات متجددة من الأكل حتى التخمة، وتتميز نوبة الأكل بما يلي:
أ- أن يأكل الفرد خلال فترة زمنية محددة كأن تكون كل ساعتين مثلاً، وتناول كمية كبيرة من الطعام تزيد عما يستهلكه الناس خلال الفترة الزمنية نفسها.
ب- شعور الفرد بفقدان القدرة على ضبط سلوك الإفراط في الأكل، حيث لا يستطيع التوقف عن تناول الطعام، وأنه لا يستطيع التحكم في نوع الطعام الذي يتناوله.
(2) المحاولات المتكررة لإنقاص الوزن من خلال سلوك تعويضي غير ملائم لإنقاص الوزن، وذلك بإتباع نظام غذائي صارم أو حث الذات على القيء أو استخدام المسهلات أو مدرات البول.
(3) أن يكون المتوسط الأدنى من نوبات الأكل حتى التخمة والتخلص منه مرتين أسبوعيًا لمدة 3 أشهر.
(4) أن يتأثر التقييم الذاتي للفرد بشكل جسمه، ووزنه.
(5) لا يحدث هذا الاضطراب خلال نوبات فقدان الشهية العصبي.
الأسلوب في الطعام
ويشير الدكتور عزت عبدالعظيم استشاري الطب النفسي إلى أن أسلوب ذوي النهم العصبي في تناولهم للطعام والتخلص منه يتصف بالتالي:
أولاً: لا تهتم الفتاة التي تعاني من النهم العصبي بنوعية الطعام الذي تتناوله أو رائحته أو مذاقه، وإنما ينصب اهتمامها على أكبر كمية يمكن تناولها من تلك الأطعمة، كما أنها تخشى أنها إذا بدأت في تناول قدر بسيط من الطعام الغني بالكربوهيدرات فإنها تلتهم المتاح أمامها كله.
ثانياً: تلجأ الفتاة التي تعاني من النهم العصبي إلى تناول الطعام سراً وبمعزل عن الآخرين، فهي تعطي لمكان تناولها الطعام أهمية كبيرة، حيث أنها تفضل أن تكون في الخفاء بعيدةً عن أعين الآخرين.
ثالثاً: إن الفتاة التي تعاني من النهم العصبي قد تدرك فجأة أن التقيؤ هو الوسيلة الناجحة لضبط الوزن دون اللجوء إلى تجويع الذات، والدخول في مواجهات مع الوالدين والآخرين، فهي تأكل بشكل طبيعي لراحة الوالدين، وتبدأ في التقيؤ للتخلص من الأكل أوقد لا تلجأ الفتاة للتقيؤ؛ إما لأنها لا تستطيع القيام بذلك أو لأن الظروف المحيطة بها لا تسمح لها وفي هذه الحالة قد تلجأ إلى المسهلات أو مدرات البول أو القيام بالتمارين الرياضية القوية.