هيئة التحرير بالثقافية - الجوف - محمد هليل الرويلي:
بعض المثقفين والمختصين لا يرى أن هناك نزاعًا بين العامية والفصيح، حيث يرى أن الأخيرة تفرعت من الأولى، وأن الخطر الداهم لا ينبع منها بل من بعض الاتجاهات اللغوية التي تدعو إلى الخلط بين العربية وغيرها من اللغات كالإنجليزية مثلاً، (الثقافية) كما عودتكم أن تكون قريبة من قضايا المجتمع الثقافي، حيث طرحت في هذا العدد هذا الموضوع على عدد من الأكاديميين، والمثقفين والأدباء، لتناقش هذا الموضوع بطريقة موضوعية توصف المشكلة وتطرح الحلول.
البداية كانت مع المؤرخ الشيخ: عبدالكريم بن حمد الحقيل قال:
أن الفصحى لن تتأثر بسبب استعمال أشباه المثقفين للعامية، كما أن أشباه المثقفينيستعملون العامية لعدم قدرتهم على التمكن من الفصحى، و لايوجد عامية تختص بالمثقفين فالعامية هي العامية في كل وطن ولكل وطنعاميته.
كما أشار إلى أنه قد نكون مقبلين على الاهتمام بالفصحى أكثر من السابق والتقيد بها ، وكل مثقف لا يلتزم بالفصحى يتحول إلى شبه مثقف.
أما الأستاذ الدكتور: مسعد بن عيد العطوي، الأكاديمي، وعضو مجلس الشورى ورئيس مجلس إدارة النادي الأدبي بتبوك سابقًا، الذي قال:
في البداية أشكر للثقافية طرح هذا الموضوع المهم، وإذا أردنا أن نتطرق إليه لابد أن نتعرف على أصول الدعوة إلى العامية التي بدأت من المستشرقين والمستعمرين، ثم حمل الراية بعض العرب مثل: سلامة موسى ولويس عوض، وفي لبنان يوسف الخال وسعيد عقل، ومع الأسف البعض أخذها بحسن نية أو رغبة في المال مثل الناشرين في الصحف، فقد ركزوا عليها وأكثروا لها الصفحات، وأكثر أولئك - وهي المصيبة - من خريجي الجامعات وهذا من باب السذاجة والغفلة وهو من باب عدم الغيرة على اللغة الفصحى، ولكي نتعرف على جذور الموضوع لا بد أن نعود إلى العام (1888م)، واعتمدت في ذلك على ثلاثة أشخاص هم: سبيتا (الألماني)، ويليام ويلكوكس، ويلمور (إنجليزيان) اللذان صحبا الاستعمار الإنجليزي لمصر ولهما دور في الكتب وتوجيه التعليم في مصر والدعوة إلى العامية.
أما في لبنان فهناك الكلية السورية الإنجليزية التي أسست (1860م)، ثم تحولت بعد ذلك إلى الجامعة الأمريكية وكان أول من أنشأ جريدة بالعامية هو «يعقوب صروف»، كما أنشأ مسرحًا بالعامية، بعد ذلك أسند إشراف التعليم في مصر إلى «دنلوب» زمن «كرومر» الطاغية الذي حكم مصر، وهذان دعما الثلاثة السابقين «سبتيا»، وليم كوكس ويلمور، وممن اشتبه فيهم «أحمد لطفي الفيلسوف» الذي نشر كتاباته الصحفية، واحتضن باشوات مصر، وكان يتذرع في كتاباته للفصحى بالعامية وهذه شبهة يقول: (نتغاضى عن دخول بعض الألفاظ الأجنبية، وهذه شبهة لا تستطيع تخطئته فيها) الذي نقده في ذلك كله أحمد شاكر رحمه الله، وقد ظهرت معالم الميل إلى العامية في الخليج، بتشجيع الشعر العامي ثم بظهور المجلات التي تستخدم العامية وتتحدث عن الفن، والشعر الشعبي وظهرت في المراحل الأخيرة التحدث بها في التمثيل الإذاعي، والتلفازي وتألقت في المسرح، ومال إليها الكثير من الشباب المثقف مع قدرتهم على اللغة العربية ولكنهم ينجذبون للبريق الشعبي، وقد طغت العامية حين أيد الإعلام المرئي الشعر العامي.. وبذل له الجوائز الضخمة إلى جانب الشهرة المغرية، ولا يخفى عليكم أهمية اللغة الفصحى وتأثيرها فهي اللغة المشتركة التي يمكن أن نفهم من يتحدث من أقصى المغرب العربي، وهي لغة القرآن الكريم ولغة الحضارة الإسلامية.
عامية المثقفين على مستويات متعددة.
«المأمول من كل المهتمين بالفصحى الوقوف أمام هذا الزحف الهائل نحو العامية..».
أما د. طنف بن صقر العتيبي، الأستاذ في جامعة المجمعة
فقد أشار إلى أهمية الاعتزاز بالفصحى بقوله: «إننا مع يسمّى بالإعلام الجديد أو وسائل التواصل الحديثة إزاء تغيّر جذري في طبيعة اللهجة أو لغة التحدث والكتابة، بل إننا أمام تحول في مفهوم لغة التواصل نفسها وطرائق كتابة المحتوى، ولعل هذا ما ولّد على المستوى العربي وعلى المستوى العالمي الكثير من الجدل. ومن هنا فإن هذا الانفتاح على العالم يمكن أن يجعل تلك اللهجات الجديدة أن تتداول بين أكبر شريحة من شرائح المجتمع، وأن تغدو خطابات جديدة في مجال التواصل العام والخاص، لها حضورها الكبير بين القراء تفاعلاً وإنتاجًا وتلقيًا، الأمر الذي يتطلب من كل المهتمين بالفصحى الوقوف أمام هذا الزحف الهائل نحو العامية، بل لعله أيضًا يفتح مجالاً رحبًا لحضور شريحة من المجتمع تحمل تخصصًا في كتابة المحتوى، وهذا التخصص ينطلق من فهم وإدراك قواعد اللغة العربية الرصينة.
وإذا كانت الحداثة التي هزت القرن العشرين قد ولدت مصطلحات يكتنفها كثيرٌ من الغموض والخلط وسوء الفهم، وتُقابل بالانزعاج حينًا والإعجاب حينًا آخر ؛ فإنها في الوقت عينه لم تؤثر على الفصحى، ولم تهدد أساسها الراسخ. بل إنها أسهمت إن قليلاً أو كثيرًا في البحث عن روافدها النصية وسماتها المميزة لها ؛ خصوصًا على مستوى درس الأدب. ومن هنا ينبغي لنا أن نشدد- أكثر ما نشدد- على منزلة الفصحى باعتبارها لغة الكتابة السليمة، ومجال توافق الفهم السليم وتطور الإبداع اللغوي والأدبي.
إذن نحن أمام كتابات أخذت معالمها تتشكل عبر وسائل إعلام واتصال جديدة ذات تأثيرات بالغة الأهمية في مستوى الكتابة الأدبية والنقدية. ونحن لا نبالغ حينما نقول إن مثل هذه العاميات التي تجلت في وسائل التواصل قد أعلنت قطيعة مع الفصحى، وتظن أنها تبحث عن النافع؛ هي إذن رؤية للفرد ولكنها رهان للمثقف، غير أن السؤال الذي ينبغي لنا أن نطرحه هنا: إلى أي شيء أوصلت تلك العاميات، وهي مثلما سبق أن أشرنا مفعمة بكثيرٍ من التحولات حتى بين دعاتها أنفسهم؟
لقد أوصلت تلك العاميات إلى التحرر من قيود الفصحى، مثل قواعد الإعراب، ورأت أنها لهجة أو لغة جديدة تدعو إلى مطابقة القول للمقول عنه، ومشاكلته وصوابه، ووضوحه للقارئ العام. بمعنى آخر أن أصحابها قالوا إنها لغة أقرب للتلقي، وإنها لسان حال العالم وصوته الممثل له. وعليه فقد توسعت دائرة اللغة اليوم؛ فظهرت فيها لهجات مخالفة لنظامها السليم؛ تبعًا للتميز بين مستويات القراءة والتلقي، ولعل هذا عائد إلى قوة سلطان التكنولوجيا اليوم ومد نفوذها، وتطور وسائل التواصل تطورًا مدهشًا، وهذا بطبيعة الحال تولد عنه مفهومان جديدان: أحدهما هو التعدد- أي تعدد اللهجات وتنوعها- وهذا المفهوم مقبول ولكن بضوابط. والثاني هو حرية الاختيار، وهذا النوع رفع شعار العامية، والحالي والراهن، وهو الذي يجعل اللغة تدخل بشكل حاسم عالمًا آخر كان تأثيره بالغ الخطورة في كل شيء. هذا العالم هو الإعلام الذي جعل مجال التعبير والكتابة رحبًا، وفتح أمام الكتاب مسالك الحرية، وحوّل الواقع إلى افتراضي، فلم نعد نميز بين الحقيقي والمتوهم والأصيل والمصطنع.
معنى هذا أن تلك العامية يجب أن تخضع لقواعد وضوابط الكتابة السليمة، أي أنها لا تتمتع كثيرًا بحرية في الخلق والتحوير والتصرف؛ بل تتحكم فيها مسلمات لغوية لا بد من الالتزام بها في أثناء مرحلة الكتابة الإبداعية.
ومن هنا فإن تلك العاميات اليوم أضحت تنقسم إلى مجموعة من النوافذ التي تظهر بشكل عياني عبر الوسيط الإعلامي، والتقني، يتصفحها القارئ ويتأملها ويتفاعل معها في أخص ميادينها، فتلك الكتابات بقيمها الفنية والجمالية جعلتنا إزاء نمط من التجلي النصي يرتبط -أكثر ما يرتبط- بلغة المكتوب التي تُستعمل في تلقيه».
«لهذه الأسباب يستخدم السعوديون ألفاظًا إنجليزية»
كما أكدت الدكتورة (نورة الدخيل) الأستاذة في كلية التربية بجامعة المجمعة
أن دراسة ثقافية أجرتها بعنوان «استخدام ألفاظ إنجليزية في كلام السعوديين» وركزت فيها على الكلمات الإنجليزيّة التي دخلت إلى اللغة العربيّة في الكلام الشفهي المعاصر لأفراد من الشعب السعودي في حديثهم المتداول يوميًا فيما بينهم, وأن هذه المتغيّرات اللغويّة يشترك فيها كثير من العرب.
وأضافت الناقدة الدخيل أنها استهلت الدراسة بـ «الألفاظ المفردة» وهي الكلمات المفردة التي نُقلت إلى العربيّة كما هي في لفظها وفي معناها، وتستخدم على مستوى واسع مثل: أوك (حسنًا) المستخدمة بديلاً لطيب، موافق، مناسب. والمقصود بها الدلالة الإيجابية على مشاركة المتكلم بها للمخاطب في فكرته أو استجابة بالموافقة على طلبه. وباي (وداعًا) مع السلامة، في أمان الله. وبراند (ماركة) التي تدل على منتج معين. وكلمة بلان (خطة عمل) منهج معين مُتّبع للعمل. وكذلك كلمة بوليس (الشرطة) وبيبي (طفل رضيع) و ديزاين (تصميم) وسوري (آسف) إضافة إلى الكلمات سنغل (أعزب) وسوفت (ناعم أو ليّن) وسيستم وشوز ومايك وميك أب وغيرها.
وتابعت: هناك كلمات مفردة نُقلت إلى العربيّة في لفظها وأصبح معناها أكثر دقة من المقابل العربي في دلالته على المراد مثل: بنك (مصرف) المكان المخصص للأموال التي يتعامل معها الناس في الإيداع أو السحب أو التحويلات المالية وتحويل العملات وغيرها من التعاملات الماليّة. وصارت هذه الكلمة تحمل هذه الدلالة بشكل مباشر وأكثر دقة من غيرها. وتاكسي (سيارة أجرة) وتي شيرت (قميص) يقصد به نوع معين من القمصان ذات الأذرع القصيرة. وشامبو وفيلم وكوفي شوب..
وزادت: وهناك مصطلحات خاصة بشبكة المعلومات الدوليّة تدل على أمور خاصّة بالتعامل مع الشبكة. وهذه المصطلحات أصلها إنجليزي ولهذا بقيت كما هي عليه مع وجود مقابل عربي لها. مثل: إنترنت (الشبكة العنكبوتية) ويب سايت (موقع إلكتروني) إيميل (بريد إلكتروني) براوزر (متصفح) واي فاي ( شبكة لا سلكية). وكلمات خاصّة بالتسوّق وأماكنه: بلازا (ساحة تجارية) وتيبل (طاولة، طاولة طعام) ورستورنت (مطعم) وستور (محل تجاري) وسوبر ماركت ومول وسينما وشوبنق.. كما هناك كلمات مختصة بالطرق وعلاماتها..
فيما ثمة كلمات ليس هناك مبرّر لغوي لاستخدامها اليومي ضمن سياق كلام معتاد، لكنها تستخدم لدلالات ثقافيّة متنوّعة، مثل: أبلكيشن (نموذج تطبيقي) إذا أكملت بيانات (الأبلكيشن) أخبرني. إقزاكلي (بالضبط) مثل ما قلت لك طلع الخبر هو نفسه إقزاكلي. السي في (السيرة الذاتية) مطلوب منك إرسال (السـي في) بسرعة.
وأشارت الباحثة إلى ورود ألفاظ ذات اشتقاقات عربيّة: هناك ألفاظ إنجليزيّة وجدت طريقها للاستخدام العربي، وتعرّبت بلفظها وصار لها اشتقاق، ويغلب على هذه الألفاظ أنها من منتجات التقنية الحديثة والأجهزة التقنيّة. وهناك ألفاظ قابلة للاشتقاق مثل: قوقلها: ابحث عنها في محرّك البحث قوقل. فلّل لها: املأها حتى تصل إلى علامة الاكتمال الكلي وسيّفت: حفظت المعلومات. كبشـرت الصورة: التقطت صورة لشاشة الهاتف الجوال بوساطته.
وألفاظ تستخدم مع فعل مساعد: رتوت لي/ اعمل لي (ريتويت) اعمل لها (سند) اعمل لها (اكسبت) اعمل لي (لايك) إلخ.
وأوضحت الناقدة الدكتورة نورة الدخيل إلى إمكانية استخدام الألفاظ الإنجليزية في الّلغة المرموقة وهي اللغة الناتجة عن خلط العربيّة مع ألفاظ أجنبيّة منتقاة يجري إقحامها في ثنايا الكلام العربي بهدف يقصد المتكلم من ورائه إلى لفت الانتباه لذاته بأنه شخص مرموق يمتاز بصياغة لغويّة وأسلوبيّة مختلفة مثل: لما تروحي على مثلا أسهم (سو) عملية المقارنة (البينش مارك) من ناحية الـ(انتريستنق) يعني (هاو متش ذا بزنس) في (البانيك) يعطيني كم الـ(انتريست). -مشكلة الكرسي عندكم يتحرك كثير هنا- ماني طايح بس (إز ريلي موفينق سو كويك) الخ إذ استخدم المتحدّث مفردات إنجليزيّة في موضع ألفاظ عربيّة، فقد استخدم كلمة (سَوْ) بمعنى (ما) للإشارة إلى المجهول، وليس في هذا الاستخدام إضافة إلى المعنى الذي يؤديه المقابل العربي. كما استخدم لفظة (بنش مارك) التي تعني المعيار المرجعي بدلالةٍ ذات معنى دقيق يحيل فيه إلى وجود مرجع معياري يُهتدى به. أما لفظة (إنترستنق) بمعنى الاهتمام فليس فيها معنى إضافي للمقابل العربي، ومثلها لفظة (برادكت) بمعنى منتج، و (ماركت) بمعنى السوق. ما يجعلنا نلاحظ أن المتحدث مغرم باستخدام عبارات إنجليزية على شكل جمل.
وخلصت الدراسة إلى الأسباب التي أدت لدخول الألفاظ الإنجليزية إلى العربية نتيجة لاستخدام مصطلحات أُخذت واستُعملت كما هي دون تعريب خصوصًا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وظهور التقنية الحديثة فاستخدموا (تويتر، سناب شات، يوتيوب، فيس بوك, واتساب... إلخ)، ولم يكن الأمر مقتصـرًا على ذلك فحسب، بل إن بعض المثقفين ورجال العلم والفكر يقحمون مصطلحاتهم العلميّة باللغة الإنجليزية وكأنها تسهّل عليهم إيصال المعلومة للآخرين حتى لو أن المستمع لا يفقه من هذه اللغة شيئًا.
وقد أدّى تسرّبت مجموعة من الكلمات الإنجليزية بين أبناء المجتمع وأصبحت تخالط لغة التواصل والكتابة. وبالنظر في الأسباب التي دعت إلى دخول تلك الكلمات نجد من أبرزها:
1. تعلّم أكثر من لغة جعل الفرد عرضة في وقت واحد لأنماط لغوية متعدّدة.
2. انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار التقنية وظهور الألعاب الحديثة التي تجمع بين مختلف الأعراق والجنسيات واللغات.
3. على المستوى الاجتماعي هناك من يقيس مكانته الفردية داخل المجتمع بمعرفة اللغة الإنجليزية وإتقانها وإقحام بعض الكلمات للدلالة على المستوى الثقافي والمعرفي للفرد وبالتالي مكانته الاجتماعية.
على المستوى النفسـي توجد فئة في المجتمع تستخدم الجمل والكلمات الإنجليزية بهدف تقوية الخطاب العربي ومحاولة إقناع الطرف الآخر بما يقوله لأنه يرى أن استخدام تلك الألفاظ توحي بسعة الثقافة والتحضّر والرقي.
من جهة أخرى أشار المحقق والباحث الأستاذ: إبراهيم بن سعد الحقيل
إلى مسار آخر ليجيب عن التساؤل المهم: هل هناك عامية جديدة تختص بالمثقفين؟
فقال: لا بد أن نعلم بأن المثقفين ينتمون إلى مسارات ثقافية متعددة، وأقطار متباعدة، وتبعًا لكل مسار فإن مستوى العامية تتضاءل وتتضخم، فالمثقف المعني بالتراث ستكون تسرب العامية إلى لغته مواربًا وغير واضح جلي، على خلاف المثقف العصري الذي يمكن رصد أثر العامية في لغته، ولهذا فإن عامية المثقفين على مستويات متعددة، إنما تنضم تحت لغة عربية متأثرة بأساليب العصر اللغوية والنمط الحضاري المسيطر وهو النمط الغربي، ومهما كانت عامية هذا المثقف فإنها مؤطرة بأطر اللغة العربية الفصحى من ناحية الألفاظ لا القواعد الإعرابية، هذه القاعدة الوسطى من المثقفين وفي الطرف المحافظ من المثقفين تكاد العامية تتلاشى إلا من رتوش يمكن ملاحظتها، وعلى النقيض منه نجد في الطرف الآخر من المثقف المتساهل لغويًا، فهو لا يستمد عاميته من لغته الدارجة اليومية وحسب إنما يستمد عامية أخرى نجدها في ألفاظ أجنبية يحاول أن يجد لها مكانًا يراه مناسبًا في حديثه وحواره، بل إن بعضهم يتماهى مع عاميته حتى لا تفهم ما يقول لأنه مرتكس في العامية حتى أخمص قدميه، وهذا لن يكون مثقفًا عربيًا بل هو مثقف قُطْرِي، نسبة للقطر الذي ينتمي له.
ويمكن أن نلحظ أن هذا النمط الجلي أو الخفي يكون ظاهرًا في الحوار والحديث بخلاف الكتابة، التي تجعل المثقف أكثر التصاقًا بلغته العربية، ولهذا فإن عامية المثقف تظهر في الحديث «الكلام» أكثر من الكتابة.
وهو نمط تاريخي ممتد فإن من يقرأ كتب عصور الانحطاط يجدها على مستويات مختلفة من حيث القرب والبعد من الفصحى.
هل نحن مقبلون على لهجة جديدة ستحل مكان اللغة الفصيحة؟
هذا من الصعب أن يكون، فالعربية الفصحى ما زالت حاضرة في المجالات الرسمية والتعليم والخطب والشعر، وهي ليست الفصحى التراثية، بل فصحى متأثرة بالنمط الحضاري السائد، والتطور اللغوي الذي يؤثر في كل لغة، إنما نحن مقبلون على ضعف نجد أثره حاضرًا في وسائل التواصل الاجتماعي والبرامج الحوارية اليوتيوبية التي أصبحت خليطًا من العامية والعربية واللغات الأجنبية، مما يؤثر دون شك على جيل قادم أخذ ينشأ عليها، فمن ثم تتأثر لغته دون شك، خصوصًا أن التعليم الأجنبي يستحوذ على عدد لا بأس به من الطلاب.
وهل يمكن أن تكون هذه اللهجة نسخة مطورة من «العربيزي» التي ظهرت نهاية القرن العشرين؟
نظرًا لذلك نراها في بعض الحوارات والكتابات الطيارة «وسائل التواصل» فأصبح المثقف يغير لفظة عربية بأخرى إنجليزية، وهو إن كتبها بالعربية فإنها تبقى أجنبية، وهذا أكثر حضورًا في الحديث والحوار، فقد تابعت برنامجًا حواريًا على إحدى قنوات التواصل الاجتماعي فلم أستطع أن أفهم منه إلا أقل القليل، لأنه مليء بالكلمات الإنجليزية التي أصبحت عصية حتى على الترجمة لأنها جاءت في سياق اجتهادي من المتحدث.
ونجد صيحات التحذير من هذا النمط اللغوي تظهر تباعًا في بعض المجتمعات العربية التي تحذر من مسلك شبابي أصبح ظاهرًا في الحديث النفعي اليومي بالعربية العامية مع خلطه بكلمات إنجليزية، وهم وإن لم يعدوا من المثقفين فإن تأثيرهم سيكون كبيرًا في المستقبل القريب، لأنهم سيكونون أسرًا تنتظم في سلك هذا المسلك اللغوي «العربيزي» وهذا على المدى الطويل يؤثر على المثقف الذي يكون من ضمن هذه المجموعات.
وعلى صعيد آخر تحدث الباحث والمؤرخ الأستاذ: عبدالله بن صالح العقيل
عن جانب آخر من الموضوع لينتقد فئة من المثقفين تسعى للخلط بين العامية والفصيحة، حيث يقول: لقد بُليت اللغة العربية في السنوات القليلة الماضية من قِبل مجموعة من أبنائها المثقفين حيث قاموا بخلطها مع بعض الألفاظ العاميّة ونشروها عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة. متخطّين بذلك العبث الصريح في كتاباتهم التحريرية وأحاديثهم الشفوية دون أن يراعوا أصول اللغة العربية التي نشأت مع بداية الخلق وقام المثقفون الذين نشأوا على أصولها وقواعدها الفصيحة بالمحافظة عليها وتأصيلها عبر وسائل الإعلام المختلفة. وقد تولى هذا الخلط المقصود بين العامية والفصحى مجموعة من المثقفين في البلدان العربية عامة وأخذوا يتفننون في هذا العبث ويحاولون أن يؤصّلوه في كتاباتهم وأحاديثهم ويبعدون اللغة العربية الفصيحة الأصيلة من حياة الناس الذين يستمعون لهم سواء من المثقفين أو من العامّة.
ولا شك أن ذلك يؤثّر تأثيرًا مباشرًا على حياة الناس وعلى سلوكهم. كما يؤدي إلى تحجيم اللغة الفصحى وإبراز العاميّة لتكون لغة بديلة عنها. وإذا أردنا أن نغض الطرف عن سلوكيات السواد الأعظم من الناس الذين يستخدمون العاميّة في أحاديثهم السائرة بينهم باعتبارها أحاديث عابرة تنتهي بتفرّقهم ولم يكتبوها أو يوثقوها... فلا يجب أن نسمح بتوثيق تلك اللغة العامية في كتبنا وسجلاتنا التي تُنشر بين الأجيال الحاضرة ويتطلع إليها أجيال المستقبل.
والذي نخاف منه ويخشاه كل المثقفين هو أن تكون تلك الدعوة التي ينادي بها العابثون في أصول اللغة الفصحى في كل البلاد العربية وغيرها ومحاولاتهم بأن ينتصروا للعاميّة أمام لغة القرآن التي تميزت بقوّتها وفنونها وتصاريفها على مدى القرون الماضية. وأن يكون لديهم لغة عاميّة جديدة ابتدعوها لتحلّ محل الفصحى العظيمة في شأنها, وهي دعوة سبقهم بها بعض المثقفين في عصور ماضية ولكن دعوتهم باءت بالفشل. فهل ينجح الجيل الجديد في دعوتهم في وقتنا الحاضر والقادم لتغيير لغة الحديث والتوثيق العظيمة لتحلّ محلها لغتهم العاميّة الضالّة .. أرجو ألا نصل إلى الوقت الذي ينجح هؤلاء في ضلالهم وعبثهم. كما نرجو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ لغتنا التي نزل بها القرآن العظيم من كل سوء ومكر. والله غالب على أمره.
والذي نرجوه ألاّ ينجح المضللون في مسعاهم وأن تبوؤ جهودهم بالفشل, وأن تكون تلك الدعوة التي يسعون إليها في إنشاء لغة عاميّة جديدة تحلّ محل لغتنا الفصحى مكانها الإهمال. وأن يهيئ الباري عز وجل للغتنا الفصحى القوة والمتانة والأصالة لتبقى هي اللغة الأم لكل العرب والمسلمين على مدى القرون القادمة بإذنه تعالى. وأن تكون هي لغة الكتابة والتخاطب وأن تتحطم كل جهود المضللين الفاسدين.
أما اللهجة التي يطلق عليها (العربيزي) والتي ابتدعها بعض من يدّعون بأنهم من المثقفين الذين يخلطون الكلمات الأجنبية بالكلمات العربية عندما يتحدثون أمام الملأ أو يكتبون ما لديهم من ثقافة خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي على صفحات الإنترنت في تويتر أو واتس أب أو فيس بوك أو غيرها ومع الأسف فإن لهم حضورهم في الكتابة -ولا اسميها ثقافة- لأن الثقافة التي أراها هي التي تُكتب لتثقيف القارئ وليس للتضليل عليه. أما كتاباتهم وأحاديثهم فيما يسمى (العربيزي) فإني أرى بأنها لا تمت للثقافة في شيء. بل إنها تعد من العبث المُفسِد لذائقة القارئ. وإني عندما أريد أن أستمع لما يتحدث به أحدهم أتمعّن في طريقة حديث فإذا كان يقوم بإدخال الكلمات الأجنبية مع العربية في ثنايا حديثه عرفت بأنه قد يملك بعض الألفاظ ليبين للسامع مستوى ثقافته الهشّة التي يقصد بها أن يقول للسامعين: بأني تعلمت اللغة الأجنبية لأفسد على الناس ذائقتهم. والله من وراء القصد.