د. إبراهيم بن محمد الشتوي
الأصل أن الثقافة تعارض البلطجة، وذلك لأمرين، أنها تعارضه في أصل التكوين إذ تبتعد عن الفظاظة والجهل، والعنجهية والقسوة، ولأنها تعد في القوة الناعمة بناء على ما تقوم به من تأثير على المتلقي والمتعاطي دون توجيه أو مباشرة أو إكراه، وإنما بجعل المتلقي يستجيب من تلقاء نفسه، غير أن المشكلة حين تتحول البلطجة إلى ثقافة، فتصبح الشخصية البلطجية ذات قبول لدى فئة من الفئات أو مجتمع من المجتمعات، وكذلك تصبح الحلول القائمة على البلطجة والجهل، والعنجهية.
يوم أن كنا صغارًا، لا أتذكر السن الآن، كنا نشاهد المسلسل التلفزيوني (صح النوم)، وهو مسلسل معروف عند جيلنا ومن سبقنا على أقل تقدير، تدور أحداثه بطريقة درامية مضحكة حول التنافس بين (غوار) و(حسني البرزان) على الفوز بقلب الفتاة الجميلة (فطوم حيص بيص).
كانت الطريقة التي يعتمدها السيد غوار للتغلب على منافسه، هي عمل (مقالب) كوميدية بغريمه، توقعه بالحرج، وتجعله مادة للضحك من الحاضرين حتى تحتقره حبيبته (فطوم) وتزهد به.
يقوم (ياسين) بوسيط أبله لـ(غوار) يتمكن من تحقيق مراده، بالإضافة إلى مساعدة (أبو عنتر) له في ترويع بعض المعارضين، أو تأمين حماية جيدة لـ(غوار)، بوصفه صديقه المقرب الذي لا يسلم صاحبه في الملمات.
بعيدًا عن التفسير السياسي الذي يمكن أن تقرأ عليه هذه التركيبة للمسلسل، وهو التفسير الذي تسانده الأجواء الفكرية، والاجتماعية والسياسية للحقبة التي أنتج فيها المسلسل، وكان يعرض فيها أيضًا.
وفي هذا التفسير، يأتي حسني البرزان، بوصفه المثقف الطوباواي الذي يعيش في أطروحاته النظرية بعيدًا عن الواقع أو إمكانية التطبيق من خلال مقولته الشهيرة: «إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا فلا بد أن نعرف ماذا في البرازيل».
كثيرٌ من الناس يظنون هذه الجملة خالية من المعنى، وأنه لا صلة بين إيطاليا والبرازيل من جهة، ومن جهة أخرى حتى لوكانت هناك صلة، لماذا نحتاج إلى أن نعرف ماذا في البرازيل حتى نعرف ماذا في إيطاليا؟ لماذا لا نعرف ماذا في إيطاليا مباشرة؟ إلا أن المعنى الموجود الحقيقي أمران: الأول: لمز المثقفين بأن حديثهم سامج لامعنى له، وكأنه على أحسن تقدير يتوافق مع المثل الشعبي: «أين أذنك يا حبشي»، فهو إطالة لا حاجة من ورائها، وهذا الحديث (حديث المثقفين) يظهر بالتركيبة المنطقية التي بناها حسني لمعرفة ماذا في إيطاليا، فهو يؤسس مقدمة منطقية مفادها أن إيطاليا مثل البرازيل بصورة من الصور (وهناك صور كثيرة للتشابه بينهما) وتسير على حذوها، فإذا عرفنا ماذا في البرازيل سهل عليها أن نعرف، وأن نفهم أيضًا ماذا في إيطاليا. ولأننا لا نعرف المقدمة المنطقية، ولا وجوه التشابه، أصبحت هذه الجملة لغوًا لا قيمة له كحال كثيرٍ من كلام المثقفين كما يقول المسلسل.
المعنى الثاني يظهر من الفذلكة أو الطريقة المنهجية المنطقية التي يستعملها حسني ويكلف بها، ويظل بناء على ذلك يردد الجملة دون آبه بما فيها من غموض أو من إعراض الناس عنها، وهو ما يحقق الجانب الآخر من المعنى، وهو أن المثقفين يعيشون في أبراجهم العاجية مندمجين، وفرحين بعالمهم المثالي، غير حافلين بواقع الناس سواء من جهة فهمهم لما يقولون أو لصلته بحالهم.
في حين يقوم (غوار) بدور الانتهازي، المخادع الذي لا يعنيه إلا أن ينال مراده، ويحقق مكاسبه دون اعتبار للأخلاق، أو القيم، أو مصالح الآخرين ومشاعرهم، ويرمز إلى فئة من المجتمع قادرة على أن تحقق مصالحها عن طريق الكذب والغش وهي فئة السياسي التي ظهرت في مرحلة ما بعد الاستقلال.
أما أبوعنتر فيمثل الغوغاء، أو الشخصية الشعبية التي تعتمد على القوة، والعنجهية في التعامل مع الأشياء، غير آبه بمحاسبة، ولا معاقبة، ولا لوم، بمعنى آخر يعتمد على البلطجة في تحقيق المراد والتعامل مع الناس، فهو (أبضاي) كما يقول السوريون، وأظنها جاءت من (أبضة) أي قبضة بعد إبدال القاف همزة، والقبضة تعني الاعتماد على القوة.
وقد جاء (ياسين) ممثلاً للشعب المسكين الأبله، كما جاء أبو كلبشة يرمز للسلطة التقليدية الغارقة في الفساد والمحسوبية هناك.
تقوم أحداث المسلسل على تحالف الانتهازي المخادع، مع الغوغائية الشعبوية البلطجية، في استغلال الشعب، ومماحكة الطبقة المثقفة، ونصب الكمائن لهم لجعلهم محل سخرية من الناس.
بعيدًا عن هذا التأويل السياسي فقد لقيت شخصية غوار مع أبو عنتر اهتمامًا كبيرًا لدى المشاهدين خصوصًا في فئة الشباب وربما صغار السن، لما يقومون به من قفشات مضحكة، أدرجت العمل في حقل الكوميديا، ولكنها في الوقت نفسه مثلت شخصية على المستوى الدرامي ناجحة تجتذب المشاهدين وتحقق نسبة نجاح جيدة للعمل بوصفها قادرة على إشباع حاجة الجماهير إلى الضحك والتسلية، وربما تغذية جوانب نفسية أخرى في وعيهم.