د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
من عرف الدكتور أبا يزن إبراهيم بن عبدالرحمن التركي عن قرب حقيقي أو مجازي يدرك أنه إن فات المكتوب من أشغال الصحافة فقد بات في قلوب أولئك الذين عرفوه فقدروه حقّ قدره، عبّروا عن ذلك أو لم يعبروا. يدرك من يتعامل معه أنه رجل (غيريّ) كما وصف شوقي ضيف أمير الشعراء (شوقي) بأنه غيري، أي يمدح غيره ولا يمدح نفسه، هكذا كان أبو يزن حريصًا على تقديم الآخرين والاحتفاء بهم وتشجيعهم.
شاء الله أن أزور إدارة مدارس نجد لأمر يخص ابنتي بدور التي تدرس في تلك المدارس، فسارع إلى قضاء ما جئت من أجله، عرفت في ذلك اليوم أبا يزن، عرفت فيه الرجل النبيل الدمث الخلق الأريحي، توالت الزيارات بعد ذلك وتوطدت المعرفة وتوثقت الصلات، دعاني للكتابة في المجلة الثقافية فأجبته على شريطة أن يصارحني متى رأى أن من الخير أن أتوقف، فكانت زاوية (مداخلات لغوية) التي صارت نافذتي إلى العالم فعرفني المهتمون بمضمونها وقرأها قراء المجلة، وصارت حافزًا للبحث والتحرير، وصارت سببًا لإصدار عدد من الكتب التي تضم تلك المداخلات، كلّ ذلك بمؤازرة من أخي أبي يزن وحرص منه، حتى إنه ليتصل بي حين يجدني أنسيت أن أبعث نص المداخلة، ولعلمي بما تتصف به هذه المداخلات من تخصص خفت سآمة القراء؛ ولكنه بسابغ كرمه وجميل لطفه كان يدرأ عني هذا الخاطر، ويقول لي إن لزاويتك قرّاؤها، وكان المتفق أن تكون الزاوية في حدود معلومة رعاية لما تقتضيه سياسة المجلة؛ ولكن بعض موضوعاتي ربما تعدت تلك المساحة وكان يتجاوز عن ذلك.
كنت أسعد كثيرًا حين ألقاه في مؤتمر أو ندوة، وربما صادفته في مجلس العلامة الشيخ محمد بن ناصر العبودي، ولكن الوقت ضيق والمكان لا يتيح فرصة لحديث بيني وبينه فدعوته للقاء في بهو أحد الفنادق، هناك جرت الأحاديث بيننا، أهديته باكورة نتاج المداخلات، ثلاثة كتب، صدّرت أحدها بإهداء له، فسره ذلك سرورًا. وتبادلنا أخبار العائلة، وقال حين علم أنّ أم أوس انتهى عملها في الجامعة: لا بدّ من تكريم هذه الأستاذة الفاضلة، فجاء في أحد أعداد المجلة ملف كرّمت فيه بكلمات طيبات من زملائها وزميلاتها وطالباتها. ثم مضت الأيام حتى جاء يوم ظهرت المجلة الثقافية بملف حافل عن شخصي المتواضع كتب فيه بعض أساتذتي وزملائي وزميلاتي وأبنائي الطلاب والطالبات، وكانت سنة حسنة سنها منذ تولى رئاسة تحرير هذه المجلة الرائعة الرائدة.
حدثني عن والده الكريم الأستاذ المعلم عبدالرحمن وعن اهتمامه بكتبي وبما يقرؤه من كتاباتي في المجلة، سعدت بسماع ذلك منه، وحرَصت على أن أضيف نسخة له كلما أهديت أبا يزن كتابًا، ثم إنّي رغبت في زيارة هذا الرجل العظيم عبدالرحمن التركي، طلبت من أخي أبا يزن أن يستأذن لي والده أن أزوره في عنيزة، وكانت الزيارة وكان اللقاء والاحتفاء، وحين جرى الحديث بيننا كان حديث من تعارفا من قبل، وكنت كتبت عن هذا اللقاء النادر في كتاب أبي يزن عن والده رحمه الله.
وأبو يزن شاعر ناثر، يدهشك شعره كما يفتنك نثره، وأما الشعر فجاءت موضوعاته إنسانية معبرة عن النفس الإنسانية وإن بدت في ظاهرها ذاتية كأشعار الشعراء، وأما لغة تلك الأشعار فهي مثال رائع لموهبة مهارة تخير الكلمات واصطفاء التراكيب، ببلاغة هي النظم الذي وصفه عبدالقاهر بحسن توخي معاني النحو، ويذكرني أبويزن بنزار قباني الذي يؤلف لك من أسهل الكلمات وأيسرها عقودًا باهرة، وهكذا أبويزن بلغة شعره التي تسامت عن التكلف والإغراب، وأما النثر فهو كالشعر في روعة تخير اللفظ وحسن السبك وتماسك العبارات وتآلف المتتابعات، مثال رائع لألوان من البديع المدهش الذي يعانق فيه اللفظ المعنى، فلا يكون بديعًا لفظيًّا كحلية دثار بل هو نسيج شعار.
وعوّد أبويزن قراءه بأن يختم مقالاته الموجزة العبارات بتوقيع يزوي الحكمة من أطرافها، وكأنما يعيد لك المقال في عبارة كما يُقحم المارد في قمقمه، وصدق أخي صديقي (فريد الزامل) في مقاله المدهش عن أبي يزن، قال «أمّا قفلاته التي يختم بها مقالاته فإلهام في الاختصار، وبراعة في الاختيار، ولو جمعت تلك القفلات لكانت ديوان حِكم!».
أسعدك الله أبا يزن ومتعك بالصحة والتوفيق والرضا، فإن فتّ المكتوب فقد بت في القلوب.