رؤية - خالد الدوس:
اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه. وقد أسهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية. ومن أهم العلماء والمنظرين والباحثين في علم الاجتماع الأمريكي العالم (ليستر فرانك وارد) الذي كان يعد من أهم علماء الاجتماع القرن التاسع عشر، وممن تركوا بصماتهم الواضحة وإسهاماتهم العلمية الثرية في نمو علم الاجتماع في أمريكا مع بقية الرواد الأوائل، خاصة بعد أن شغل منصب أول رئيس لجمعية علم الاجتماع الأمريكية، بعد أن شجع على إدخال علم الاجتماع في التعليم العالي الأمريكي نظراً لتأثير إسهاماته البحثية ودراساته السوسيولوجية التي تركز على بعض الظواهر الاجتماعية. فضلا عن مؤلفات الغنية التي كانت ذات الاثر الكبير في نمو علم الاجتماع في مساريه النظري والعملي (التطبيقي) في أمريكا.
ولد العالم الأمريكي (ليستر وارد) في جوليت بولاية إلينوي عام 1841م وكان الأصغر من بين إخوته العشرة ونشأ في أسرة كانت تعمل في الزراعة وكان منذ طفولته يتمتع بالموهبة والذكاء الفطري والخيال الاجتماعي فالتحق بمدرسة في مقاطعة كين بولاية إلينوي عام 1850 وتحديدا في التاسعة من عمره ومنذ دخوله للمدرسة أظهر حبا وميلا بشغف للتعليم والاطلاع الواسع والقراءة الخارجية عن المدرسة مما ساهم ذلك في نموه الثقافي ونضجه الفكري في صغره وكان يعمل مع والده في الزراعة بعد انصرافه من المدرسة لكسب العيش وبعد أن أنهى تعليمه العام انتقل إلى بنسلفانيا بدعوة من شقيقه الأكبر سينيوس الذي كان يكبره بتسع سنوات وكان شقيقه يعمل في مصنع للعجلات فوجد الفرصة للعمل مع شقيقه وعينُه على الالتحاق بالجامعة والاقتراب من الحضارة بعد أن عاش طفولته في الريف الزراعي..!! بعد الانتقال إلى ولاية بنسلفانيا عمل في التدريس، ولقلة المال الكافي للالتحاق بالجامعة، عمل في الصيف في الزراعة بصفته يحب الزراعة ومن أجل جمع المال الذي يخوله للالتحاق بالجامعة وترجمة حلمه الذي كان يدور في فلك التعليم الجامعي، وبعد أن توفر المال الكافي التحق في معهد سوسكهانا الجامعي عام 1860م، ولأنه كان يعي في بداية الأمر بأن تعليمه الرسمي والذاتي كان متقطعا سرعان ما وجد نفسه بتطور سريعا مقارنة مع زملاء، وجرت ترقيته بسرعة. ولرغبته الملحة في التعليم الجامعي التحق (وارد) بجامعة جورج واشنطن وتخرج منها عام 1869م ونال شهادة البكالوريوس في الحقوق ثم الماجستير في الآداب عام 1873م.
انتقل للعمل الجامعي الاكاديمي وكان من الرواد الأوائل في علم الاجتماع الأمريكي وشغل منصب أول رئيس للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع كما كان العالم (ليستر وارد) أول من طرح فصول علم الاجتماع وأدخله كمجال في التعليم العالي الأمريكي وأصبح فيما بعد أستاذا بجامعة بروان في عمر 65 عاما وكان من العلماء الذين اهتموا بالنظريات الاجتماعية ودراسة التنمية الاجتماعية التطورية التي كان يمثلها في علم الاجتماع الأوروبي للعالم الانجليزي المعروف هربرت سبنسر(1820-1903)، كما كانت لها دراسات وبحوث علمية منشورة حيث كتب نظاما متكاملا لعلم الاجتماع يجمع بين البحث النظري والبحث العملي ضمن اهتماماته بعلم الاجتماع التطبيقي ومن خلال دراساته حول دور الذكاء في التطور الاجتماعي بهدف حل المشكلات الاجتماعية التي تمثل أهم موضوعات علم الاجتماع التطبيقي الذي يعني بشكل مباشر بتلك المشكلات المتعلقة بالمواقف المرضية أو سوء التكيف حيث يعمل على حلها في ضوء المعرفة التي يوفرها علم الاجتماع النظري والذي يدرس المشكلات العامة في المجتمع بهدف اكتشاف وتفسير الظروف والعوامل المرتبطة بها، ومن خلال اهتماماته السوسيولوجية خاصة بالتنمية الفكرية والتطور الاجتماعي.. ألف كتابه الرئيسي علم الاجتماع الديناميكي، الذي يدرس التغيرات الاجتماعية وطبيعتها وأسبابها واتجاهاتها وعمليات الصراع التي تعمل على تفكك النظام الاجتماعي.
والأكيد أن أفكار العالم الفذ (وليستر وارد) تميزت على خلاف الكثير من العلماء الأوائل فى أمريكا بالنضوج الكبير والأفق السوسيولوجي الواسع عندما كتب كتابه الأول (علم الاجتماع الديناميكي). ثم كتابه علم الاجتماع التطبيقي وكتاب علم الاجتماع، وكتاب التخطيط الاجتماعي، وعلم الاجتماع الصافي، ويمكن القول إن أعماله كانت مجرد توسع واستفاضة فى بعض النقاط التى وضعها فى كتابه الأول. وقد كان جل اهتمام وورد منصبا على تصحيح ما كان يراه أخطاء عند علماء الاجتماع الاوائل في أوروبا اوجست كونت (1798-1857) وهربرت سبنسر، ومن الاسهامات الهامة للعالم الفذ وارد تأكيده على العوامل النفسية في تطور الثقافة او الحضارة وعلى أهمية العوامل النفسية في النشوء والتطور الاجتماعي يقف في وجه مادية سبنسر التي كانت تغفل هذا العامل.! كما كان له اسهامات هامة اخرى في بعض النطاقات مثل رأيه بأن عملية النشوء والتطور ليست مستمرة أو مباشرة، بل إنها بالأحرى عملية رمزية، ومهما يقال عن مخططه المنطقي لعلم الاجتماع فإن مكانته كمفكر وعالم نشيط في علم الاجتماع الأمريكي تحتل مكانة كبيرة بعدما لعب دورا رياديا وحراكا معرفيا في تأسيس علم الاجتماع كنظام أكاديمي في الولايات المتحدة الأمريكية.
توفي رائد علم الاجتماع الأمريكي والشخصية المحورية الأبرز والأشهر في القرن التاسع عشر (وارد) في عام 1913م في العاصمة الأمريكية (واشنطن) عن عمر يناهز 72 سنة بعد أن قدم اسهامات علمية ومنجزات بحثية أثرت علم الاجتماع النظري والتطبيقي ومازالت ابحاثه ودراساته الاجتماعية تدرس في أعرق الجامعات العالمية كرائد من رواد هذا العلم الخصيب. والأكثر تأثيرا من غيره في تحليلاته وبحوثه ودراساته الغنية في علم الاجتماع بعد أن تناولت حقولا مختلفة في القانون والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس.