إن الأغنية المغربية الملتزمة ترتبط بداية باستعداد الفنان للانخراط في منظومتها المعتمدة أساساً على غناء القصيدة الشعرية بالدرجة الأولى والتي تتغنَّى بهموم الناس ومشاكلهم وصراعاتهم مع الحياة وتكاليفها، وهذا لا يتأتى لدى أي فنان كان، وخصوصاً أننا نعيش، منذ عقود خلت، تهافتاً كبيراً على أغنية جديدة تختار اللحن السريع وغير المدروس والذي يجذب نوعية معينة من الجمهور العربي، خاصة الشباب الذي يجد في الأغنية السريعة الجديدة ملاذاً له ومجالاً أساسياً لتصريف معاناته ومشاعره وأحاسيسه تجاه الحياة والناس. فالأغنية الملتزمة، ومنذ بداياتها الأولى، ارتبطت بالأساس بمدى تمكّن الفنانين من التعبير عن مشاعر الناس وأحاسيسهم تجاه القضايا الاجتماعية والإنسانية التي يشعر بها الناس في مسيرة حياتهم فيشاركهم الفنان تلك المشاعر ويعبر عنها من خلال الشاعر المبدع الأول للقصيدة الغنائية مستخدماً لحناً جميلاً وأداءً غنائياً في إطار من القواعد الموسيقية الراقية. ومن الفنانين المغاربة الذين برعوا في هذا النوع من الأغنية نجد المجموعات الغنائية الشهيرة كناس الغيوان وجيل جيلالة ولمشاهب ... ومن الأفراد الذين تأثروا بهذه المجموعات نجد الفنان سعيد المغربي وصلاح الطويل وجمال بودويل ... وغيرهم.
يعتبر الفنان الملتزم جمال بودويل من الفنانين المغاربة الذين ما زالوا يحافظون على استمرارية الفن الملتزم والموسيقى المغربية والعربية الطربية التي ظهرت مع أغنية المجموعات في حقبة تاريخية من تاريخ المغرب، ولم يبحث لنفسه عن موطئ قدم في الأغنية الجديدة التي تقود مباشرة إلى الشهرة وإلى المال، معتبراً أن الأغنية الشبابية الجديدة التي انتشرت مؤخراً في المغرب والعالم العربي على السواء لا يمكنها أن تعمر طويلاً أو تبقى في التاريخ نظراً لكونها أغنية سريعة استهلاكية سرعان ما تموت أو تغيب مع غياب وموت صاحبها أو اعتزاله، والدليل على ذلك هو أفول نجوم شبابية توقفوا عن الغناء والإنتاج أو ماتوا أو اعتزلوا الفن. بل إن الالتزام بالنسبة إليه هو ثقافة وهو جوهر الوعي بالإبداع الفني الحقيقي المنبعث من قناعة إنسانية تستدعي الانخراط في قضايا المجتمع والناس والدفاع عنها والتعبير عنها بالفن الهادف، كما أن هذا النوع من الفن هو وسيلة لحماية ثقافتنا العربية وخندقها من الغزو الثقافي العولمي ومن الاستلاب الفني الذي صار بين عشية وضحاها يستحوذ على كل شيء جميل فينا وعندنا. فأغلب ما قدمه هذا الفنان بمشاركة مع شعراء محليين وآخرين من خارج مدينته يدخل في باب الأغنية المغربية الملتزمة التي تستدعي اللحن الجميل والأداء الغنائي البطيء والمرتبط بالأغنية الكلاسيكية العربية والمغربية معاً.
يرى الكاتب والباحث المغربي عبدالمجيد نجدي أن من يتابع مسيرة الفنان جمال بودويل ومشوارَهُ مع الغناء والتلحين، يلاحظُ بوضوح أنه الفنان حاول أن يمهد لنفسه منذ أول ظهور له على خشبة المسرح لتشكيل أغنية مستقلَّة تتماثلُ مع طابعِهِ الخاص، ولكنها في الوقت نفسه، نابعة من الأجواءِ العربيَّةِ ومحلِّقة في آفاقها الرَّحبة. لذلك رأيناه منذ بداياتهِ مع الغناءِ والتلحين، يذهبُ إلى أغاني عن نضال الشعب الفلسطيني التي عملَ على إعدادِها بصيغ موسيقيَّةٍ جديدةٍ، تواكب روحَ العصر وتتماشى وتتناغمُ مع طابعها العربي الأصلي، مما أهّلهُ بعد ذلك أن يستلهمَ ويغترفَ من هذا التراث الغنائي الكثير من الألحان التي قدَّمها خلال السنواتِ الماضية والتي تخدمُ مشروعَهُ الفني. وإذا نظرنا اليوم إلى الغناء الملتزم، نجد أنَّ رُوَّادَ وعمالقة َ الفن الوطني الملتزم بالمغرب لا يتجاوزُ عددُهُم أصابعَ اليد ويقفُ في طليعتِهم ناس الغيوان وسعيد المغربي وصلاح الطويل، وأمَّا محليًّا فنجده لوحده يتربَّعُ على عرش الأغنية الوطنيَّة الهادفة والفن الملتزم... ورغم كل العراقيل التي واجهته استطاع َ أن يُحقِّقَ نجاحاً وشهرةً واسعة ًجدًّا.
ويعتبر الفنان جمال بودويل أيضاً في نظر العديد من النقاد الفنيين والمتابعين أنه أول فنان وموسيقي محلي بمدينته في هذا النوع من الموسيقى الملتزمة، حيث برز صيته في المدينة بعد تقديمه لعديد من المقطوعات الموسيقية الجميلة وتلحينه لقصائد شعرية شهيرة محلياً ووطنياً. ولقد ذاع صيت الفنان جمال بودويل محلياً في مدينته الجديدة منذ عشرات السنين بعد أن اكتشف موهبته المسرحي المرحوم محمد سعيد عفيفي الذي دعمه وسانده فيما بعد وذلك بإسناد أدوار مسرحية له وقدمه كعضو نشيط في جمعيته «عروس الشواطئ» التي كانت تعتبر من الجمعيات الرائدة محلياً ووطنياً وعربياً. وما جعله يشتهر كفنان هو إشراكه في المسرحيات الغنائية التي كان يقدم فيها وصلات موسيقية وغنائية ملتزمة ومتجددة جعلت العديد من الفرق الغنائية تخطب وده وتطلب منه الانضمام إليها نظرًا لكونه كان متأثراً بمجموعة «ناس الغيوان» الشهيرة إضافة إلى تأثره الواضح بالشيخ إمام ومارسيل خليفة مما دفعه إلى إعادة غناء أغانيهم على المسرح وفي الحفلات الموسيقية والملتقيات الثقافية بالمدينة أو بمختلف المدن المغربية الأخرى.
دخل بودويل عالم التلحين بعد أن ذاع صيت الشاعر المغربي المتميز وابن مدينته سعيد التاشفيني الذي أغنى الساحة الشعرية المغربية بقصائد غنائية جميلة غناها العديد من الفنانين المغاربة المشهورين، مما دفع الفنان جمال بودويل إلى تلحين بعض قصائد الشاعر وخاصة قصيدته الغنائية الرائعة «أحلام طائر» وغناها بنفسه، والتي نالت إعجاب العديد من المتلقين والنقاد الفنيين المغاربة. ومنذ ذلك الحين انطلقت تجربته في التلحين فعمل على تلحين قصائد لشعراء آخرين نذكر منهم الشاعرة حسنة عدي ومصطفى المكاوي ومحمد كابي... وغيرهم. يختار بودويل النص بشكل صارم ويقرأه جيداً، ويحاول تكييفه موسيقياً ولحناً حتى يتسنى له التعاطي معه بأسلوبه الخاص الذي يعجب جمهوره الخاص. ولذلك فهو فنان مقِلٌ، مقارنة بباقي الفنانين اليوم، لأنه يجتهد كثيراً ويعمل أكثر لإخراج أغنيته إلى الوجود وهي قادرة على التأثير في الجمهور وترك أثرها الواضح لديه كما هو شأن أغنيته الشهيرة «أحلام طائر» للشاعر الكبير سعيد التاشفيني.
ساهم الفنان في العديد من الملتقيات الفنية والثقافية الوطنية والدولية منها مهرجان الأغنية الملتزمة بمدينة الخميسات المغربية عام 1992م، وبجولات في الجامعات المغربية في كل من كلية مراكش وسطات وأكادير والدار البيضاء، هذا على الصعيد الوطني، أما على الصعيد الدولي فقد شارك في سهرات فنية في كل من الجزائر وتونس وليبيا في إطار الأنشطة الثقافية التي كان ينظمها الاتحاد المغاربي، وقام بجولة بجنوب فرنسا رفقة جمعية «عروس الشاطئ» في ثلاث محطات في كل من عام 1992م وعام 1994م، وعام 1996م، حيث قدم في هذه المناسبات والملتقيات العديد من الإبداعات الجميلة والمتميزة لحناً وأداءً تركت أثرها الواضح على الجماهير الحاضرة وكتبت اسمه خالداً في هذه الفضاءات الوطنية والعالمية.
يذكر أن الفنان جمال بودويل هو من مواليد مدينة الجديدة عام 1962م، درس وتعلم القرآن الكريم في بداية طفولته بـ»المسيد»، والذي كان سبباً في ظهور موهبته الغنائية والفنية التي استحسنها فقيه الجامع أثناء ترتيله للقرآن الكريم. ثم درس التعليم الابتدائي في مدرسة المقاومة التي كانت المنطلق لبروز موهبته على يد معلمه آنذاك الذي سانده فيها وساعده على التفوق والاستمرار في الفن، كما أكمل باقي مشواره الدراسي في مؤسسات تعليمية بالمدينة إلى أن توجه إلى الفن تاركاً مجال الدراسة والتعليم لصالح الموسيقى والغناء الملتزم.
** **
عزيز العرباوي - كاتب وناقد مغربي.