كانتْ وما زالتِ العامِيَّةُ صاحبةَ النّصيبِ الأكبرِ من الشُّيوعِ في مجتمعنا على عكسِ الفُصحى التي هي أجدر بقضيّةِ الانتشارِ؛ وذلك لجريانها على الألسنةِ بين أفرادِ المجتمعِ، ولمرونتها؛ إذ إنّ ليس لها قواعد تحكمها، ونراها تتجلَّى بكثرة في الإعلامِ بشِقَّيهِ: الإذاعيّ والمرئيّ (في بعضِ البرامج واللِّقاءات)، وفي الأشعار، كما تظهرُ بوضوح في الإشهارات (الإعلانات الدِّعائيَّة)؛ فنجد أنّ بعضَ أصحابِ الشَّركاتِ الكُبرى يستعملونَ العامّيّةَ فقط؛ لترويجِ منتجاتِهم وبضائعهم بتعبيراتٍ غريبةٍ، وغالبًا ما تبدو غير مفهومةٍ للمتلقّي، أو لا علاقةَ لها بالمنتج المراد تسويقه؛ زعمًا منهم أنها تجذبُ الزَّبائن، وهي في حقيقةِ الأمر غيرُ لائقةٍ، لا ترقى إلى ثقافةِ المجتمعِ، ولا تعكسُ تقدُّمَهُ وازدهارَه كوننا نعيشُ في عصرِ الإنجازِ والتَّطوّرِ والنّجاح، كما تسيرُ بعضُ (التّطبيقاتِ) ذاتِ الصّدى الواسعِ كالمتاجرِ الإلكترونيّة، وتطبيقاتِ المطاعمِ والتّوصيلِ على المنوالِ نفسِه و»لا حياةَ لِمَن تُنادي»..!
ولكنَّ الأمرَ الأدهى والأمرّ أنَّ تداولها بين العامَّةِ أدَّى إلى تراخي (بعض المُثقّفين) في مسألةِ الفُصحى، وعزوفهم عن استعمالِها (تحدُّثًا وكتابةً) وخاصةً في المقاماتِ الرَّسميَّةِ، وتتّسِعُ هذه الظّاهرة في منصَّاتِ التَّواصلِ الاجتماعيّ المعروفة: تويتر، الفيسبوك، سناب شات، الأنستقرام.. وغيرها من البرامج المستخدمة حاليًّا، وممّا يزيد الأمر خطورةً معرفتهم بأنّهم فئةٌ مؤثّرة بوصفهم واجهة المجتمع وصوته، وهذا الموضوع يعدُّ كارثةً يجبُ علينا تداركهُ وتلافيه، فقد يتفاقم الأمر شيئًا فشيئًا وينشأ عنه عاميَّة جديدة تختصُّ بفئةِ المثقَّفين، أي أنّه: يصبح لديهم لهجة عاميّة خاصّة، مُتَدَاولَة فيما بينهم، كما نشأتْ لهجة (العَرَبيزي) أو (الإنجليزيّ المُعرّب) بين فئةِ الشَّباب في نهايةِ القرنِ العشرين.
ولعلَّ من أبرزِ الأسباب التي دعت بعض المثقّفين إلى استعمال العاميَّة في الوسطِ الثَّقافيّ: غيابُ الوعي اللُّغويّ، وضعفُ التَّمكُّنِ من الفُصحى؛ لأنهم غالبًا ليسوا من أهلِ الاختصاصِ -وإن كانوا كذلك فهم قِلَّة- وليونةُ العامّيّةِ وعدم تقيُّدها بالقواعد، وكثرةُ إقبالِ النَّاسِ على استخدامِها في جميعِ برامجِ التّواصلِ الاجتماعيّ ممّا جعلهم يعتقدون أنّها لهجةٌ رسميّةٌ في التّخاطبِ والتّواصلِ مع كافّةِ أفراد المجتمع وهذا غير صحيح.
إنَّ المُثقّفَ الواعي لا يجهَل أنَّ حجرَ أساسِ الثَّقافةِ هو الفُصحى، ويدركُ جيِّدًا أنّ مكانتَهُ العلميّة الثّقافيّة لا تعلُو إلّا بإتقانهِ للفصحى والتزامهِ بها، وأنَّ جميع ما نراهُ من مُنجزاتٍ علميّةٍ ثقافيّةٍ من مؤلّفاتٍ وأبحاثٍ وأوراقٍ علميّةٍ ومقالاتٍ.. وغيرها مُحال أنْ تُكتَبَ بغيرِ الفُصحى؛ لأنّها اللُّغةُ الأمّ الرّسميّة، ولُغةُ الإعجازِ والرُّقيِّ والجمالِ، ولغةُ الألفاظِ والمعاني السَّاحرةِ ويكفيها شرفًا أنّها لغةُ القرآنِ الكريم التي شرّفَها اللهُ -عزَّ وجلَّ- وأنزلَها منزلةً عظيمةً من بينِ كافّةِ اللُّغَاتِ، فلماذا لا نتباهى بها ونفخر؟
ولذا فإنَّ النّهوض بالفصحى وتعزيزِها وتسهيلِ عمليَّةِ انتشارها يبدأُ بـ(المختصِّين باللُّغَة العربيَّة) وذلك بتكثيفِ الجهودِ في نشرِ الوعي اللُّغَوي، وتيسيرِ الفُصحى وترسيخِها من خلالِ جميعِ مواقعِ التَّواصلِ الاجتماعيّ عبر (الحسابات اللُّغويَّة المؤثِّرة) التي تُعنى بشؤونِ العربيَّةِ وخدمتِها، وتوظيفِ منصَّةِ (زوم) وغيرها من المنصَّاتِ النَّاجحة التي أتاحتْ فرصةَ التَّواصلِ (عن بُعد) مع جميعِ الأفراد بمختلفِ الاختصاصاتِ من خلالِ عقدِ المؤتمراتِ اللُّغَويَّة، وإقامةِ النّدواتِ والدّورات العلميَّة المختصَّة بعلومِ اللُّغة، بالإضافةِ إلى تمكينِ (المساحاتِ التِّويتريَّة) وتفعيلها بمُناقشةِ موضوعاتٍ تخدمُ كافّةَ علومِ اللُّغَةِ العربيّةِ، كما أحثُّ المثقّفين في شتّى الاختصاصاتِ على التّقيُّدِ بالفُصحى والالتزامِ بها حتّى يطغى استعمالها على العاميَّة، وتأخذُ حقَّها مِنَ التّوسُّعِ والسُّطوعِ في مجتمعنا، وكلُّ هذه التّوجيهات تجعلنا نلتمس عبارةَ الجاحِظ (ت255هـ) عند قوله: «لَنْ يُصَانَ العِلْمُ بمثلِ بذلِه، ولَنْ تُستبقَى? النّعمةُ فيهِ بمثلِ نشرِهِ»..!
** **
- الجادل بنت محمد
Twitter: @eljadel2