د. عبدالحق عزوزي
مع التدخل الروسي في أوكرانيا أصبحنا في حقبة جديدة، ودخلنا في تغيرات جيوسياسية واسعة في أوروبا وفي أهداف حلف الناتو والنظام العالمي، ولربما سنصبح في حقبة قد تسيطر فيها الصين على تايوان وجنوب شرق آسيا وقد تنشأ ثلاث كتل في العالم «أمريكية وروسية وصينية»، إلا أنه قد تعم الفوضى والصراع العالميين، حيث ستتكيّف كل منطقة في العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوة ...
مؤخرًا قرَّرت السويد كما كان متوقعاً السير على خطى فنلندا وإعلان رغبتها في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في تغيّر تاريخي لهذين البلدين الإسكندنافيين اللذين لم ينضما أبداً إلى الناتو حتى في الحرب الباردة، وغيرا موقفهما الحيادي بعد تداعيات الأزمة الأوكرانية.. لكن مساعي الدولتين تصطدم برفض الرئيس التركي، مما يثير شكوكاً حول احتمال التوصل إلى إجماع بدون صعوبة.
تواجه إذن منظمة حلف شمال الأطلسي، التي اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2019 أنها دخلت في «حالة موت دماغي»، تحديًا أوروبيًا جديدًا؛ ومع طلب فنلندا والسويد الانضمام إلى هاته المنظمة، بدأ يظهر الدور المركزي الذي بات يلعبه الناتو والتواجد الأمريكي فيه.. فلم نعد نسمع كثيرًا عن الحكم الذاتي الإستراتيجي لأوروبا لأن الجميع بدأ يفهم الدور المركزي الأمريكي في الحلف الأطلسي.. فالرئيس الفرنسي كان يشرح قبل الأزمة الأوكرانية إستراتيجيته الأمنية التي تهدف إلى أن تكون أوروبا قادرة على الاحتفاظ بمكانتها في عالم يُهيمن عليه عمالقة مثل الولايات المتحدة والصين، شرحًا مستفيضاً.. وكان يبرز الاختلافات الثقافية والجيوسياسية بين الطرفين الواقعين على جانبي المحيط الأطلسي، ويوضح في خرجاته الإعلامية أن أوروبا ينبغي أن تسعى وراء إثبات أهميتها الإستراتيجية «لنفسها» و»التصدي للاحتكار الصيني الأمريكي المزدوج». وقد ظل الرئيس الفرنسي لعدة سنوات يُردد كلماته التي مفادها أن فرنسا الأكثر قوة لن تتحقق سوى من خلال أن تكون أوروبا أكثر قوة، وهو الأمر الذي ظل لعقود جزءًا من بصمة فرنسا الوراثية السياسية. وظهر موقف الإليزيه تجاه حلف الناتو، على سبيل المثال، متناقضًا منذ عهد الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول، الذي سحب القوات الفرنسية من قيادة الحلف في عام 1966، وهو القرار الذي اتُخذ نقيضه تماماً بعد 40 عامًا فحسب.
واليوم، لم نعد نسمع عن هذا الحكم الذاتي الإستراتيجي العسكري للاتحاد الأوروبي؛ فالتدخل الروسي في أوكرانيا وضع حداً لأوهام الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي.. فالأوروبيون لن يتمكنوا عن بكرة أبيهم من استبدال دور أمريكا الحاسم بوصفها موفرة للأمن ومزوّدة للسلاح والعتاد دون أن ننسى المعلومات الاستخباراتية التي توفرها للحلفاء، حيث أبانت تفوقها في هذا الجانب على كل الدول الأوروبية مجتمعة في الأزمة الأوكرانية رغم بعدها الجغرافي ورغم تعدد الدول الأوروبية وقربها من ساحة المعركة..
وإذا بقينا في تجربة الناتو فلا أخال أحداً من الدول الأوروبية بما في ذلك ألمانيا، أحد الفاعلين الرئيسيين في أوروبا، ولا دول أوروبا الشرقية، ستريد زوال هذا الحلف الأطلسي أو خروج أمريكا منه. فالساكنة التي يساهم الحلف في وضع مظلة وقائية لها يقرب عددها 900 مليون نسمة، أي مجموعة ساكنة دول أعضائه، كما أن عدد التحديات في تطور مستمر: الدفاع عن الحدود، الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، تحدي الهجومات الصاروخية، الإرهاب، القرصنة، إلى غير ذلك.
ولا يجب أن ننسى أنه في سنة 2008 كان مجموع القوات العسكرية التي كانت منتشرة مباشرة تحت مظلة الحلف الأطلسي 168000 عسكري وانتقص العدد ليصل إلى 16000، لأن قوة أي حلف ليس بقوة عدد جيوشه المنتشرة، وإنما بقوة تحالف دوله، وبقوة ونوعية الأسلحة المستعملة وخبرته الإستراتيجية والاستخباراتية والتنظيمية والتدخلية. فلم نعد في الحروب القديمة، حيث قوة العدو تحسب بعدد الخيلة وإنما بقوة ودقة السلاح المستعمل.. وهاته الإستراتيجية للتقليل من عدد الجيوش والرفع من قوة التدخل ودقة التخطيط أعطيت للمسؤول الثاني في الحلف القائد الأعلى المكلّف بالتغيير (SACT)، حيث مقره موجود ليس في بروكسيل وإنما في نورفولك (NORFOLK) بالولايات المتحدة الأمريكية. وهاته الإشارة تبين لنا أن الحلف الأوروبي العسكري لا يمكن أن يستقيم بدون أمريكا وأن فكرة الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي جزء من الوهم المتكرر.