د. محمد بن إبراهيم الملحم
في إطار الحديث عن نجاح نخب الموهوبين من الطلاب في المسابقات الدولية وربط بعض المعلقين أن ذلك مؤشر لجودة المستوى النوعي للتعليم فقد ذكرت أنه تعميم مغالط في تناقض ظاهري Paradox وهو ما يسمونه أيضاً «التعبير المغالط الموهم بالصحة»، وهذا اللون من التعميم ينتمي إلى نفس التأطير المفاهيمي لمقولة مشهورة لدينا هي: أن تعليمنا جيد بسبب أننا «نحن» مخرجات ذلك التعليم! خاصة عند الإشارة إلى نجاحات من يتقلّدون أدواراً مهمة في المجتمع كالأطباء الناجحين والمهندسين المتقنين والمحامين والخبراء الماليين وغيرهم، فإن كان المقصود بـ«التعليم» كلاً من التعليم العام والجامعي فالعبارة ملائمة لأنه بين تعليمنا الجامعي مستويات نوعية تنافس، أما إن كانت مفردة «التعليم» منصرفة إلى التعليم العام فهنا تكون الإشكالية المفاهيمية والتي تحدث بسبب نسيان عدة معطيات مهمة تدل على أن التفوق المشار إليه لم يكن التعليم العام سبباً له في الأصل، وهذه المعطيات تتميز بها بلدنا عن غيرها من البلدان التي يكون التعليم فيها بنفس مستوانا المتأخر عن الركب نوعياً، وأولها التعليم الديني غير الرسمي سواء في المساجد أو البيوت كأساس لتوكيد قيمة العلم بالإضافة إلى ما يبثه في روح المتعلّم من أهمية العلم والعمل والنشاط والجدية، وثانيها فئة من مدارس التعليم الأهلي المتميز والتي ازدهرت في السنوات العشرين الأخيرة متفرّدة في عطائها ومختلفة تماماً عن غيرها من المدارس الأهلية (النمطية) وعن المدرسة الحكومية بالطبع بحيث أن مقارنة من يدرس بهذه المدارس مع من يدرس بتلك المدارس تكاد تماثل من يدرس بدولة أخرى فالفرق بين الطالبين لا يقارن أحياناً، يُضاف إلى ذلك وعي أولياء الأمور بأهمية مثل هذه المدارس واستعدادهم للصرف على تعليم أبنائهم خلافاً لجيل سابق مقتدر لكنه لا يؤمن بذلك ويرى الاكتفاء بالمدرسة الحكومية لأبنائه «الأغنياء»، بل حتى بعض متوسطي الدخل من جيل آباء وأمهات اليوم يلجؤون لتلك المدارس لإيمانهم بأهمية جودة التعليم، المهم أن هذه المدارس هي من تصنع نسبة كبيرة لا بأس بها من المتخصصين والقيادات الذين تشير إليهم المقارنة التي نتحدث عنها، ولكنها (أي تلك المدارس) لا تمثّل «إحصائياً» المستوى النوعي للخدمة التعليمية المتاحة لأي مواطن حتى وإن كانت تدخل هي أو طلابها في الإحصاءات العامة.
هناك بعد آخر مهم هو أنه لدينا جامعات معينة تميزت بالجودة والصرامة في تقديم تعليم جاد فهذه قد تعوّض النقص الحاصل في التعليم العام (الحكومي)، فكم رأينا طلاباً لم يحصّلوا كثيرًا من العلم في التعليم العام ولكن لما انخرطوا في مثل هذه الجامعات بدأوا تحدياً جديداً مع الحياة وانقلبت حياتهم العلمية في الجو الأكاديمي الجيد, والمعادلة ذاتها تنطبق على الابتعاث وتأثيره الإيجابي على ضخ دماء متميزة في شرايين مؤسسات الدولة سواء الابتعاث الحكومي أو الشركات أو ذلك الذي على حساب الأهالي، وهذه الميزة في بلدنا لما حباها الله من سعة ميزانية وسعة في دخل الفرد ولله الحمد، فكل هذه عوامل مهمة لا ينبغي إغفالها في هذه المناقشة لنجد أن من يديرون عجلة التنمية ليسوا بالضرورة «مخرجات التعليم العام» فهي مغالطة ظاهرية مخادعة وينبغي التنبه لها، بل هم مخرجات «المجتمع»، يبقى أن نلاحظ جزئية مهمة فيمن يطلقون هذه العبارة في الإعلام وهي الفئة العمرية لهم فأحياناً بعض هؤلاء هم من جيل سابق عاصر مرحلة مدارس التعليم العام الجادة فهم يرون أنهم مخرجات لتعليم جيد، وهذا حق لكن لا يجب تعميمه زمنياً على ما أتى بعد ذلك!
الخلاصة أن استخدام عبارة «نحن مخرجات التعليم العام» لا يجب أن تكون معياراً سهلاً للحكم على جودة تعليمنا، خاصة في ظل الرؤية الجميلة الرائعة التي يقودها ولي العهد -حفظه الله - حيث أصبح لدينا ما يُسمى مؤشرات الأداء KPI وهذه بالنسبة للتعليم يجب أن تُبنى على أسس نوعية (وليس كمية فقط) وتكون هي ما يقدم صورة عن تميز تعليمنا وجودة أدائه ومخرجاته المباشرة أما «نحن» فهي تشير إلى عينة متحدثي هذه العبارة في الإعلام وليس «رجل الشارع» ومضمون العبارة عموماً خليط يصعب فصل مكوناته أحياناً لأن هؤلاء الـ «نحن» مخرجات المجتمع كما ذكرت وليسوا بالضرورة مخرجات التعليم العام ذاته، ومع أن هذا يعني أن مجتمعنا بكليته ناجح لكن نستطيع أن نتصور: كم سيكون أكثر نجاحاً وتفوقاً وكم سيكون منافساً لو كان تعليمنا العام في مستوى أفضل مما هو عليه الآن، وأنا واثق أن ذلك سيحصل يوماً ما.