عبدالوهاب الفايز
يضعنا الحادث الأخير في مدينة (بافلو) في ولاية نيويورك عندما أقدم مراهق على قتل 12 شخصاً في عملية إطلاق نار وحشية، أمام حالة تؤكد أن الإرهاب مرض خطير قد يهدّد كل الدول. وأمريكا منذ عامين تواجه الحالة الصعبة لظاهرة الإرهاب الأصولية وحواضنها الفكرية والسياسية. فهذا المراهق اتضح أنه مؤمن ومتأثر بنظرية الأصولية المسيحية المتطرفة الأمريكية white replacement theory، ونظرية الإحلال أو الاستبدال بنيت على القناعة أن السود واليهود والمسلمين والمهاجرين سوف يحلون مكان السكان البيض المسيحيين. الأمر الخطر أن هذه النظرية ستكون أداة التفسير والتغيير المهمة في مستقبل الولايات المتحدة، وقد برزت في السنوات الماضية مع انتخاب دونالد ترمب، والمختصون في الشأن السياسي والاجتماعي الأمريكي تتبعوا هذه النظرية ودرسوها بعمق وصدرت عدة كتب ودراسات حولها.
والسؤال: كيف نمت هذه النظرية، وكيف ستكون تأثيراتها على الداخل الأمريكي، والأهم: أثرها في السياسة الخارجية الأميركية؟
صعود اليمين الديني إلى السلطة السياسية وقفت عنده الباحثة كاثرين ستوارت في كتابها The Power Worshippers، وهو كتاب تحذيري ويدعو للاستيقاظ وأخذ القومية المسيحية على محمل الجد، كتهديد كبير للجمهورية الأمريكية. وترى ستيوارت أن اليمين الديني تنكر كحركة اجتماعية منشغلة بعدد من القضايا الثقافية، مثل الإجهاض وزواج المثليين قبل أن يتطور إلى حركة قومية مسيحية تسعى إلى اكتساب السلطة السياسية وفرض رؤيتها على المجتمع بأسره. وترى أن الحركة اليمينية لا تخوض حرباً ثقافية، بل تشن حرباً سياسية على معايير ومؤسسات الديمقراطية الأمريكية.
وتكشف في كتابها عن القوة الحقيقية للحركة، فهي ترى أنها تستمدها من شبكة كثيفة تكمن في مراكز الفكر وجماعات الدعم المزروعة في مجتمع سريع التوسع من التحالفات الدولية مع القوميين الدينيين ذوي التفكير المماثل وغير الديمقراطيين في جميع أنحاء العالم. وتتبعت في بحثها الأموال الداعمة للحركة، فوجدت أن الكثير منها مصدره مجموعة من المانحين الأثرياء والمحافظين المتطرفين والمؤسسات العائلية. وتؤكد أن الحركة القومية المسيحية أكثر تنظيماً وتمويلاً، وأفضل بكثير مما يدركه معظم الناس لكونها تستهدف السيطرة على جميع جوانب الحكومة والمجتمع. وترى أنها تحقق نجاحات مذهلة، ويمتد تأثيرها الآن إلى كل جانب من جوانب الحياة الأمريكية، من البيت الأبيض إلى عواصم الولايات، والمدارس والمستشفيات.
توماس ب. إدسال، من أبرز الكتَّاب في النيويورك تايمز ولديه عمود أسبوعي متخصص في السياسة والديموغرافيا وعدم المساواة. تناول في مقاله الأخير بشكل عميق كيف ينمو ويؤثّر المزيج المخيف للقومية المسيحية ونظرية الاستبدال الأبيض، فالحركة ما زالت تجتذب جمهوراً كبيراً في الولايات المتحدة. ويشكّل أتباع هذه الحركات المتداخلة ما يصل إلى ربع أو حتى ثلث الناخبين. ويرى الكاتب إدسال أن هؤلاء مهما كان حجمهم، فهم مصممون على استعادة ما يعتبرونه الأساس العرقي والديني الأصلي لأمريكا. وتبني هذه الحركة شعبيتها على تأجيج المشاعر المعادية للمهاجرين والمسلمين.
وهذا التحول في بنية المجتمع الأمريكي سوف نرى تأثيراته السلبية على علاقات وتحالفات أمريكا الخارجية. وهو نفس الوضع في بعض الدول الغربية والتي تواجه تقريباً نفس الظاهرة، أي صعود تيارات التفوق العرقي البيضاء التي كانت وراء موجات الاستعمار الأوروبية الأولى التي استهدفت تحقيق المصالح عبر العنف والإرهاب. وكان غطاؤها الثقافي والديني توفره مثل هذه النظريات العنصرية التي تحفز المراهقين ليوجهوا عنفهم ضد الأقليات.
وهذا الإرهاب الذي تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية هو نفس الإرهاب الذي واجهته منطقتنا قبل عقدين من الزمن، وكانت وسائل الإعلام الغربية، بالذات الأمريكية، تكثف تقاريرها وموضوعاتها الصحفية عن هذه الأحداث.. وغالباً عن قصد وسوء نية يتم ربطها بالدين ومحتوى المناهج في التعليم العام. وهو نفس الإرهاب الذي نواجهه في الدول العربية من الميليشيات والفرق المدعومة من إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها. والأعمال الإرهابية التي تشنّها هذه الجماعات مع الآسف لا تزال قائمة، والدول الغربية تتساهل معها، بل وتتحفظ على تصنيفها كجماعات إرهابية، وإيران تشترط رفع جماعاتها من قوائم الإرهاب مقابل إتمام الاتفاق النووي. وما زلنا نتذكَّر كيف ارتفع نشاط هذه الجماعات بعد احتلال العراق وهو ما أكدته نتائج التقرير البريطاني الرسمي بشأن حرب العراق، المعروف باسم تقرير لجنة تشيلكوت.
نحن نطرح موضوع الأصولية الجديدة في الدول الغربية ليس من باب الشماتة في ما يحدث، فقتل الإنسان في أي مكان بدون وجه حق هو قتل للناس جميعاً، كما يعلمنا ديننا الحنيف. وإنما نعود هنا لنناقش من أجل فهم أفضل للواقع الأمريكي، فأمريكا دولة عظمى تتأثر سياستها الخارجية بتجاذباتها وصراعاتها الداخلية، وعلاقات أمريكا مع العالم سوف تكون أسيرة اندفاع كل من حركة صحوة الجناح اليساري الديمقراطي وحركة التفوق الأبيض.
وأيضاً لندرك أن الحملة الغربية المكثفة علينا كان وسيظل هدفها الأساسي الخفي هو إرباك مجتمعاتنا، وإبعادنا عن الدين، ونزع هذا المكون الأساسي من هويتنا. فالدين والفقر ليس لهما علاقة بمشروع الإرهاب الذي اختطف منا أبناءنا وجنَّدهم في هذا المشروع العدمي. لقد عاش مجتمعنا مع الدين مقيمًا لأركانه وحدوده، وتعايش أجدادنا مع الفقر والعوز. إن الإرهاب المنظّم المحترف نتاج جماعات التدين السياسي الساعية إلى السلطة والهيمنة. ورغبة الوصول للسلطة نراه الآن يحيي نزعة الهيمنة القديمة للأصولية المسيحية، ويحيي نظريتها للتغيير ويحولها لتكون حركة جماهيرية مكتملة الأركان.
والسؤال الصعب: كيف يتعامل العالم مع أمريكا مستقبلاً؟