د.سالم الكتبي
مع تقدم فنلندا والسويد رسمياً بطلب الانضمام إلى حلف «الناتو»، واعتراف هلسنكي بخطورة الفترة الانتقالية التي تسبق الموافقة على العضوية، وفي ظل هذه الخطوة التي تضيف للناتو توسعاً يجعله يقف على أعتاب روسيا بشكل أقرب كثيراً، لن يقف الرئيس بوتين صامتاً، وبل ربما يدفعه ذلك للرد بشكل ما، حيث لا يستطيع أحد توقّع ماهية «الإجراءات الفنية العسكرية»، التي هدد بها الكرملين كرد محتمل على انضمام الدولتين الأوروبيتين للحلف.
الخطورة لا تكمن في احتمالات التصعيد والمواجهة على خلفية توسع «الناتو» فقط، بل لأن هناك صراعاً أيديولوجياً معقداً تتشكل معالمه في الأفق، حيث يتحدث الغرب عن القيم المشتركة التي تجمع دوله في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، ويروّج الكثير من الساسة والنخب الغربية للفكرة القائلة بأن الرفض الروسي للأنظمة الديمقراطية هو السبب فيما حدث في أوكرانيا.
وعلى الجانبين، الروسي والغربي، تجري على قدم وساق عملية إعادة توصيف لما يحدث في أوكرانيا، وتسويق ذلك لشعوب الجانبين، فالكرملين بات يعتبر العملية العسكرية بمنزلة تصد لخطر وجودي يهدد روسيا، أو كما قال مسؤول روسي «نحن لا نحارب فقط النازيين في أوكرانيا، نحن نحرر أوكرانيا من احتلال الناتو ونطرد العدو الأسوأ من حدودنا الغربية».
وفي المقابل بات الغرب يتحدث عن تهديد الأنظمة الاستبدادية للديمقراطيات الغربية، حتى إن صحيفة فرنسية تساءلت في عنوان لها: «هل تمثّل روسيا تهديداً مباشراً للنظام العالمي؟»، وترددت مفاهيم سياسية حساسة في هذه الأزمة مثل وصم النظام الروسي بالنظام «الكليبتوقراطي»، وهذه بخلاف الحكم الاتوقراطي، ذلك المفهوم التقليدي الذي يتردد في الظروف العادية!
واقعياً، فإن المساعدات الأمريكية الضخمة لأوكرانيا، والتي تقدَّر بنحو 40 مليار دولار، علاوة على المساعدات الإنسانية والإستراتيجية الأخرى، تستهدف إضعاف روسيا بحسب معظم المراقبين، وتثبيط أي رغبة لديها في الانخراط في صراعات عسكرية جديدة، وهو أمر يرتبط بسعي الولايات المتحدة لتحييد روسيا في أي صراع دولي محتمل قد ينشب مع الصين، وبالتالي فإن دوافع هذه المساعدات هي بالأساس تتجه صوب الصين، بمعنى أن خوض حرب أمريكية بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا يؤدي في نهاية المطاف - بحسب التصور الأمريكي - إلى عزل القوة الصينية وحرمانها من دعم روسي محتمل.
الخطورة في مثل هذه المخططات أن الرئيس بايدن نفسه قد أقرَّ بأنه يخشى أن يكون الرئيس بويتن لم يعد يمتلك مخارج لحفظ ماء الوجه من أزمة أوكرانيا، وبدلاً من أن يقدم له هذه المخارج أو طوق الإنقاذ - بحسب ما يفترض دبلوماسياً لتسوية الأزمة، يتجه الغرب لتعظيم الضغوط على موسكو، وتشديد الضغوط عليها، فلا يصبح أمامها سوى الاستسلام، وهذا خيار مستبعد تماماً في ظل أداء الاقتصاد الروسي منذ بداية الأزمة وعقلية الرئيس بوتين وتكوينه الفكري والسياسي ناهيك عن تاريخه المهني، أو الاستعداد لحرب طويلة المدى وتشديد مواقفه السياسية والعسكرية، وهذا هو الاحتمال الأقرب للتصور أو التنفيذ.
السيناريو الشبح الآن أن تستمر الأزمة الأوكرانية وتتمدد جغرافياً وجيوإستراتيجياً لتشمل دولاً ومناطق أخرى، بما يدمر اقتصادات العديد من الدول، ويتسبب في أزمات غذائية واقتصادية خطيرة قد تتسبب في حروب وأزمات أخرى موازية، وينتقل العالم إلى حالة فوضى غير مسبوقة تصعب السيطرة عليها، وهنا أتذكر تصريحاً لافتاً نشرته مجلة «نيوزويك» الأمريكية، على لسان ديمتري روغوزين، رئيس وكالة الفضاء الروسية «روسكوزموس» قال فيه إن بلاده قادرة على القضاء على دول الناتو في غضون 30 دقيقة فقط في حرب نووية. ورغم تحذيره من عواقب شن حرب نووية على العالم، فإن التصريح بحد ذاته كارثي ويعني أن القيادة الروسية تدارست مثل هذا السيناريو واحتمالات اللجوء إليه. والخوف هنا أن يركن الغرب إلى الفكرة القائلة بأن التلويح الروسي باستخدام السلاح النووي يبقى لمجرد التهديد، وأن من المستحيل أن يلجأ الكرملين إلى هذا السلاح علماً بأن «حشر» روسيا في زاوية ضيقة من دون أي مخرج مناسب يلوح لها في الأفق ليس أمراً عقلانياً بالمرة، ولهذا لا يمكن النظر للأمر من زاوية حسابات العائد والتكلفة الإستراتيجية، أو القواعد التقليدية لإدارة الأزمات، فالوضع برمته يبدو خارج سياق الحسابات التقليدية التي هيمنت على حروب عالمية وأزمات دولية سابقة، وعلى الجميع التفكير بشكل مختلف بحثاً عن حلول واقعية لهذه الأزمة.