الحب من السنن الكونية، وتهوى إليه الأنفس دون إرادتها، ولا يملك المرء إلى اختيار المحبوب سبيلاً، بل هي أحداث تفرض ذلك وتصيب القلوب، وإن اختلفت هذه الأحداث إلا أن الضحايا اثنان.
من واقع التراث الأدبي، فنهاية العشاق الذين تجاوزوا الهيام والصبا، كانت ليس كما كانوا يتوقعون قبل أن يتمكن الهيام منهم، سواء حصل الزواج بينهم أم لا، وقد فرض واقع العشاق على أسمائهم تغييراً جذرياً، حتى أصبح يعرف أولئك الشعراء باسم معشوقاتهم، كجميل بثينة، الذي ربما لا يكاد يذكر نسبه لأبيه وقبيلته إلا في تعريف الشاعر المكتوب، عدا ذلك فينادى بجميل بثينة على منصات العلم والمعرفة، مروراً بكثير عزّة، وغيرهما ممن ألحق باسمه لقب طغى على اسمه، كمجنون ليلى وقيس بن الملوح.
جميل بن معمر، أو المعروف بجميل بثينة، التقى بثينة وهم صغار سن، ووقع الحب بعد سباب دار بينهم بسبب نهرها لأحد صغار إبل جميل، فكبرا وكبر الحب، وفرضت العادات بأن من يتغنى بمحبوبته ويشيع ذكر ذلك يمنع من الزواج منها كعقاب للتشهير، فتزوجت بثينة من غيره، ولم يفقد جميل الأمل من رؤيتها وتتبع أخبارها، متنقلاً خلف قوافل بني عذرة قبيلته وبثينة من الشام إلى أطراف الحجاز، هائما في بثينة، ويعزز هيامه ببثينة بقوله:
حلّت بثينة من قلبي بمنزلة
بين الجوانح لم ينزل بها أحدُ
ولم ينته جميل من الإفصاح عن حالته وأن ما حدث له من صبا في بثينة قضاء الله، حينما أنشد:
لقد لامني فيها أخٌ ذو قرابةٍ
حبيب إليه في نصيحته رشدي
فقال: أفق حتى متى أنت هائمٌ
ببثنة فيها لا تعيد ولا تدي
فقلت له: فيها قضى الله ما ترى
عليّ؛ وهل فيما قضى الله من ردِّ
ومن أشهر ما قال:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة
بوادِ القرى إني إذن لسعيدُ
وقد زاد في وصف حالته وشوقه إلى بثينة، تثبيت معالم الأرض شعراً، فوثق من خلال العشق معالم وطنية بارزة اليوم، مثل حسمى أحد المواقع المعروفة بمنطقة تبوك، عندما قيل لجميل، أتى اخو بثينة، فرد قائلاً:
وقالوا يا جميل أتى أخوها
فقلت: أتَى الحبِيبُ أخُو الحبيبِ
أحبك إن نزلتَ جبالَ حِسمى
وإن ناسبتَ بثنة من قريب
وقوله واصفاً حالته، وأن أنسه لا يكون إلا بنظرة من بثينة بمنطقة الحجر بوادي القرى (العلا حالياً):
ما أنس، إلا أنس منها نظرةً سلفت
بالحِجرِ، يوم جلتْها أمُّ منظورِ
وقد أبدع في وصف الطرق المؤدية إلى حيث بثينة، ومنها:
فَلَما طَلعنَ ذو الغِلالَةَ وانتَحت
بِهنَّ الحُداةُ في خَويٍّ لَه سَهلُ
وَلَما بَدا هَضبُ المِجَزِّ وأَعرَضَت
شَماريخُ من شَرعان يردَى بِها الوعلُ
فالغلالة جبل مميز بتركيبته كأنه صف من الصخور تقع على طريق العلا عردة، وهضب المجز أيضاً منطقة إلى الجنوب من الغلالة، وشماريخ شرعان جبال شاهقة حادّة ضمن مجموعة منتزه شرعان، والمجز وشرعان ضمن محمية شرعان حالياً شرق محافظة العلا.
ولم يكف جميل عن اظهار حبه وهيامه في بثينة، حتى أهدر دمه وغادر مصر وتوفي هناك، وقبل وفاته التقاه رجل من قبيلته فحمّله أمانة على أن يمنحه كل ما يملك شريطة أن يركب ناقته ويذهب بها إلى مضارب بثينة عند موته، ويمر منازلها ويردد:
صَدَعَ النَعِيُّ وَما كَنى بِجَميلِ
وَثَوى بِمِصرَ ثَواءَ غَيرِ قَفولِ
إلى قوله:
قومي بُثَينَةُ فَاِندُبي بِعَويلِ
وَاِبكي خَليلَكِ دونَ كُلَّ خَليلِ
ونفّذ الرجل الوصية بعد موت جميل ووصل إلى حيث منازل بني عذرة، وعندما سمعت الأبيات بثينة خرجت مرتعبة وإذا بناقة جميل يمتطيها رجل آخر ويردد تلك الأبيات، فقالت إن كنت كاذبًا فقد فضحتني، وإن كنت صادقًا فقد قتلتني، فقال: بلى والله إني لصادق، واخرج حلّة جميل فصرخت صرخة بكت منها نساء حولها، ووقعت مغشياً عليها وعندما أفاقت أخذت تردد:
وإن سلوى عن جميل ساعة
من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر
- إذا مت - بأساء الحياة ولينها
ولم يكن جميل بثينة وحده الذي عاش ألم العشق، فهناك مجنون ليلى، قيس بن الملّوح وليلى العامريّة، عندما كان يحضر فتيان الحي وفتياتهم إلى ليلى وهم رعاة في الفلا ليسمعوا منها وهي العارفة بالشعر والأدب، وهو ما ذكره مجنونها في قصيدته التي أظهرت تعلقه بها:
تعلّقت لَيلى وهي غِرٌّ صغيرة
ولم يَبدُ للأَترابِ مِن ثَديِها حَجمُ
صَغيرَينِ نَرعى البَهمَ يا لَيتَ أَنَّنا
إِلى اليَومِ لَم نَكبَر وَلَم تَكبَرِ البَهمُ
وزاد تعلّق هذا الشاب بأديبة الحي ليلى، ولم يترك مجمعاً لها إلا حضره، وقد ظهر عليها ميولها إلى قيس عن سواه من الفتية، فكبر الصغيرين ونما حبهما، وعندما شاع الخبر منع قيس من لقاء ليلى، فامتنع قيس عن الطعام وانحل بدنه وأصبح في وضعٍ جعل أمه تشفق عليه وتطلب إلى ليلى أن تزوره لعل ذلك فيه شفاء له، إلا أن ليلى اعتذرت خوفا من عقاب أهلها، ولكن لم تستطع أن تسمع ذلك من أم قيس ولا تقف إلى معشوقها في محنته، فخرجت سراً في ليلة وصل لمجنونها، وأخذت تسامر قيس ويشتكيا من حال العشق وما حل بهم، وعندما انصرف ردد:
أَتُضرَبُ لَيلى كُلَّما زُرتُ دارَها
وَما ذنب شاةٍ طَبَّقَ الأَرضُ ذيبُها
فَمكرِم لَيلى مكرِمي وَمهينُها
مُهيني وَلَيلى سِرُّ روحي وطيبها
لئِن منعوا لَيلى السلامَ وَضَيّقوا
عَلَيها لِأَجلي واستمرّ رقيبُها
أَتَيتُ ولو أن السُيوفَ تَنوشني
وَطُفت بيوتَ الحَي حَيثُ أُصيبها
فلم يكن أمام أهله إلى السعي لتزويجه من ليلى، إلا أن أهلها رفضوا ذلك وفقاً للعادات التي ذكرت في بداية المقال، فجن جنون قيس واصبح يتصرف بلا عقل، فلم يكن من أهل ليلى إلا أن يحكم الوالي بذلك لمنع قيس من أذاهم، فحكم لأهل ليلى وأهدر دمه لهم إن مسهم بأذى، إلا أن أهلها آثروا الرحيل عن منازل قيس، وعندما مر قيس بدار ليلى وعلم برحيلهم أخذ يندب نفسه ويردد:
أَحِنُّ إِلى ليلى وَإِن شَطَّتِ النَوى
بليلى كما حنَّ اليراعُ المُثَقَّبُ
يقولون ليلى عذّبتك بحبّها
أَلا حَبَّذا ذلك الحبيب المُعذّبُ
وقد زوّج أهل ليلى معشوقة قيس لرجل غيره، ولكن لم تدم طويلاً حتى هزلت من الفراق والحزن وأصابها المرض إلى أن فارقت الحياة.
وفي ذات السياق، كان لولاّدة وابن زيدون قصة عشق كما لغيرهما من الشعراء مثل امرؤ القيس، إلا أن قصة العشق لجميل بثينة ومجنون ليلى يعبران عن أساطير الهيام، حيث كان الفراق والألم والفقر خطيئة الحب الذي أورث التراث الأدبي بلاغة الشعر، وخلّدت للأماكن صوتاً في بطون الكتب.
وعسى أن تجسّد هذه الخطايا في أعمال فنية على عين المكان تأصل الشعر على المكان، وتعيد المشاهد الأدبية المقروءة إلى مشاهد مرئية تربط الإرث الأدبي بالعالم المحيط، وتحفظ هذه القصص التي صنعت كنوزاً ثقافية تميّزت به أرضنا.
** **
- مرضي الخمعلي
@mardhisaadd