د. جاسر الحربش
أسأل عشرة من معارفك عشوائياً عن شكوى ارتجاع الحرقان لتتأكد أن أكثرهم يعاني منه. الاسم العربي القديم للارتجاع هو (القلس) وكالعادة عرَّبنا المصطلح بحيث أصبح اشتقاقاً من اللغة الانجليزية الارتجاع المعدي المريئي.
الصديق الدكتور محمد القنيبط وجه لي على التواصل الشبكي هذا السؤال: ما رأيك أبا عدي في هذا الخبر من قناة الإخبارية: تجمع الدمام الطبي ينهي معاناة مريضة «ارتجاع المريء» بالحلقة المغناطيسية، ودكتور مالك المطيري يقول إن التقنية تسهم في علاج الارتجاع بنسبة 92 % خلاف العلاج الدوائي للمعدة... إلى آخر الخبر.
جوابي كان التالي: رأيي هو أن الارتجاع لا يختفي إلا باختفاء سببه أو أسبابه، وأغلبها غذائي/ نفسي/ ترهلي رفاهي. الارتجاع بسبب خلل عضوي في الجهاز الهضمي ليس هو الشائع. إن كان فتاقاً في الحجاب الحاجز فليس له غير الجراحة، وإن كان اضطراباً في التحكم العصبي بحركة الجهاز الهضمي فيعالج دوائياً. أما ما ينقل عن شفاء حالة واحدة أو بضع حالات بالحلقة المغناطيسية فلا ينظر فيه دون معرفة أسباب الارتجاع لكل حالة على حدة. المؤكد أن الارتجاع تحول إلى تجارة طبية وصيدلانية وشعبية، بينما أكثره شكوى غير عضوية لانتقام الجسد من الاستهتار بشروط العافية في مجتمعات الوفرة الغذائية والامتلاء والارتخاء، ويقل حدوثه في مجتمعات الاكتفاء والكفاف. (انتهى الجواب المختصر)
لكن لأن الارتجاع تحول إلى ظاهرة اجتماعية واسعة الانتشار أكثر من كونه قصوراً عضوياً، أحببت المساهمة بخبرتي الطويلة في الموضوع. من المقولات المتعارف عليها في المنطقة الوسطى من السعودية القول إن فلان غثني وشب كبدي، بمعنى أزعجني وسبب لي الحرقان. هذا هو الوصف الدقيق لعلاقة الارتجاع الحمضي أحياناً بالتوتر العصبي سواءً كان توتراً ذاتياً لأسباب خاصة أو اجتماعياً لمنغصات تعايشية.
العاملة المنزلية المستقدمة من مجتمع الكفاف والاكتفاء الغذائي تصل وهي لم تشعر من قبل بالارتجاع، ثم وبعد شهور قليلة تبدأ معها نفس الشكوى مثل أهل الدار. هنا يتجسد سببان، غذائي أرهق معدتها المعتادة على نظام غذائي بسيط وسبب نفسي في غربة العاملة ومنغصات أهل الدار.
يخرج أحدنا إلى العمل مرتاحاً مطمئناً، وبعد عبور شارعين أو ثلاثة يبدأ عنده الشعور بالارتجاع. لمنغصات التشارك العشوائي في الفضاء العام تأثيراتها الكثيرة على الصحة العامة ومنها الارتجاع وارتفاع الضغط والسكر للمصابين بهما والخفقان وضيق التنفس واضطرابات ما يسمى تجاوزاً القولون العصبي.
يراجع المواطن الكبير في السن الطبيب بسبب خلل متوقع وبسيط في إحدى وظائف جسده، ليخرج بوصفة دسمة من المنظمات والمسكنات والمهضمات والمخفضات فما تلبث أحشاء المراجع المسكين أن تحترق من الداخل ويعذبه الارتجاع. في هذا النوع من الارتجاع تحتج معدة المسن الهرمة مثل صاحبها على كثرة الأدوية وكأنها تقول لصاحبها ارحمني من طبيبك ووصفاته.
وثمة أسباب أخرى مهمة تمس المتاجرة بإجراء المناظير الطبية من قبل «بعض» الاستشاريين في الجهاز الهضمي يكون سببها الرغبة بالحصول على أكبر مردود من التنظيرات اليومية، واختصر الموضوع في النقاط التالية:
أولاً عند اقتراب المنظار من فوهة المعدة تنفتح هذه تلقائياً فيكون من المتوجب على الطبيب في تلك اللحظة سحب المنظار قليلاً إلى الأعلى قبل أن يلتقط صورة لما بدا له كفتاق أو ارتخاء ويتأكد من عدم انغلاق فوهة المعدة أو تخطي الجزء العلوي منها مستوى الحجاب الحاجز لكي يكون تشخيصه صحيحاً، ولكن استعجال التنظير لا يغطي هذه المهمة في كثير من الأحيان.
ثانياً عدم التأكد من احتمال وجود ارتخاء في الثلث العلوي من المعدة وانكفائه على الأجزاء السفلية منها مما يعيق التفريغ نحو الأسفل ويسهل التفريغ نحو الأعلى باتجاه المريء. هذا النوع من الارتخاء المعدي يكثر في مجتمعات الشبع والكسل، ويكفي للتعامل معه المضغ الجيد والابتعاد عن الشبع الشديد والاضطجاع بضع دقائق على الجانب الأيسر بعد الوجبات الرئيسة.
وفي الختام رغم أن ظاهرة انتشار الارتجاع الحمضي متشعبة الأسباب إلا أن أغلبها يمكن السيطرة عليه ذاتياً وبدون وصفات أو جراحات طبية، وذلك بتطبيق الموروث المتوارث: نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع/ ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس/ العافية في أطراف الجوع.
والنصيحة النهائية: لا تستشر الطبيب بخصوص الارتجاع قبل أن تجرب وتفشل معك التطبيقات المذكورة أعلاه وعليك أن تطيع احتجاجات معدتك على ما ترفضه من مشروبات أو أطعمة لا ضرورة لها ولا تنفع لكنك تتناولها فقط للاستمتاع أو المجاملة.