أحزنني جدًا سماع خبر وفاة الشاعر والأديب السعودي الكبير علي غرم الله الدميني -رحمه الله- كان الخبر فاجعةً وصدمةً كبيرة، غلبتني مشاعر الحزن على فقده فما زلتُ متأثرةً برحيله، حينما تلقيت الخبر كنت قد أنجزت ورقة علمية تتناول إحدى قصائده من ديوانه «بياض الأزمنة»، وكانت فترة إعدادي لهذه الورقة العلمية من أجمل المحطات التي توقفت عندها، عشتُ لحظات جميلة تعمقت فيها داخل تجربته الأدبية المميزة والثرية. فإن فقد الأدب السعودي أديبًا وشاعرًا حداثيًا عظيمًا، فلن ينسى ما تركه الدميني من تجربة أدبية ثرية في مسيرته الأدبية التي لا تخفى على أحد. وأنا أهدي هذا العمل إلى روحه رحمه الله.
إن موضوع (المدينة والقرية) من الموضوعات التي ظهرت في مرحلة الحداثة في الأدب السعودي، وقد بدأ هذا مع ظهور التعليم والبعثات وانتقال أهل الريف إلى المدينة وتغلغل حياة الريف في الإنسان الريفي مما جعله يصطدم بحياة المدينة ويرفضها، وأزمة العلاقة بين هذه الثنائية (المدينة/ القرية) التّمدن تُشكل في هذه الفترة رفضًا للمدينة وكأن القرية قد ضاعت أمام المدينة، ويذكر عبد الله أبو هيف في كتابه (الحداثة في الشعر السعودي) عن شعر شعراء الجيل الثالث الذين ولدوا خلال الأربعينيات والخمسينيات بأنها قد تميزت بالرفض لكثير من أوجه الحياة. فأشعار هذا الجيل تكثر فيها أزمة (التمّدن) فالشعور بالغربة وعدم الانتماء للمدينة وضياع القرية أمام المدينة قد شكلت حيزًا في أعمال أدباء هذه الفترة، ومن هؤلاء الشعراء الشاعر السعودي الحداثي علي الدميني -رحمه الله - وهو من مواليد الأربعينيات.
والورقة العلمية التي أعددتها من ديوان «بياض الأزمنة» لعلي الدميني رحمه الله، تناولت فيها موضوع (المدينة والقرية) في قصيدة (الهوادج) مستخدمةً المنهج الأسلوبي، إذ كان من اللافت في القصيدة وجود أسلوب التكرار، والذي هو في حقيقته- كما تذكر نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) - «إلحاح على جهة مهمة في العبارة يعني بها الشاعر من عنايته بسواها، فهو يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمام المتكلم بها» والتكرار في قصيدة (الهوادج) جاء لتسليط الضوء على أمرٍ يريد الشاعر قوله.
يعتبر العنوان من أهم العتبات النصية الموازية المحيطة بالنص وجاء عنوان الديوان «بياض الأزمنة» ليحمل دلالة على ما تحمله نصوصه فهو العتبة الأولى كما يقول جينيت في كتاب (عتبات): «مجموعة العلامات اللسانية التي تشير إلى محتواه الكلي». ونستدل من عنوان الديوان على أن نصوصه قد تكون مرتبطة بالزمان، والزمان قد يكون ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا متلازمًا بمكان، وتدل قصيدة (الهوادج) -وهي إحدى قصائد هذا الديوان- على الرحيل والسفر، الرحيل من حياة الصحراء أو القرية، وجاء العنوان على صيغة الجمع ليوحي بالرحيل الكلي (المهاجرة) والانتقال.
تعددت صور التكرار في القصيدة، فمثلًا على مستوى الجملة تكررت عبارة « ما تبقى من العمر» وجاء ذلك في عدة مواضع، للفت الانتباه وللتأكيد على أمر يريد قوله، كما أخذت القصيدة شكلًا هندسيًا في تكرار العبارة، فجعل الشاعر افتتاحية كل مقطع من مقاطع القصيدة تبدأ بهذه العبارة وفي كل مرة تحمل دلالة، وكان تكرار جملة «ما تبقى من العمر إلا الكثيرْ» في المقطع الأول مرتين له أهمية كبيرة بالنسبة للشاعر ترتكز عليها القصيدة، وتعتبر افتتاحية ملفتة لموضوع القصيدة.
وتتضح علاقة عنوان الديوان بموضوع النص وعنوانه، فكلمة (البياض) التي جاءت في عنوان الديوان ونصه ارتبطت بغربة الزمان، وتكررت كلمة (بياض) في القصيدة مرتين؛ ففي المرة الأولى جاءت للفت الانتباه «فماذا أسمي البياض الذي يتعقبني؟» وقصد بذلك بياض الزمان (العُمر)، فالزمان أصبح في عيني الشاعر عديم اللون وعديم الحياة، ودلالة لون البياض في هذا السياق على الهم والحُزن الذي غلب عليه، فكل شيء في نظره أبيض، لا ملامح للحياة الهنية فيه. أما كلمة البياض الثانية التي جاءت في قوله: «ما تبقى من العمر إلا بياضُ الصبايا» فقد أتت منعًا لتكرار الفعل وجاءت مستثنى، وارتبطت لفظتا البياض بالعمر لتصوير حزنه على مُضي الأيام التي ذهبت، والتي يتمنى عودتها لكن العمر يمضي ولا يرجع، حيث يحمل لون البياض دلالة الاغتراب والغربة.
ويكرر الشاعر كلمة (السنوات) مرتين في مشهدين مختلفين، يقول: «كانت السنوات تعبّ العشيات. صارت السنوات تغرّد في متن غربتها». فالسنوات الأولى يقصد بها سنوات عمره التي عاشها في القرية، وأما السنوات الثانية يقصد بها سنوات عمره في المدينة، فالسنوات قد اختلفت وتغيرت بتغير القرية نتيجة وجود المدينة، ونتيجة التغيير الذي حدث لحياته حين انتقل من القرية إلى المدينة، مـمّا يُخفف لديه الشعور بالانتماء، ودلالة ذلك قوله: «غربتها»، فلقد ضاعت حياة القرية بوجود المدينة، في حين أن حياة المدينة لا تمثّله.
إن القرية التي غزاها التمدُّن حاضرة في عقل وقلب الشاعر، فيظهر تعلقه الشديد بها، حيث يتذكر حياته التي عاشها فيها منذ أن كان وليدًا، فهو يعرف حصاها ونخيلها وأوديتها ورياحها ونساءها وأمطارها ونجومها وظلها وإبلها، وظهر في هذا النص من خلال تكرار كلمة (المدينة) وما تحمل من دلالات والتي جاء تكرارها ثلاث مرات، الأولى في قوله: «قد خبِرت المدينة... أبراجها واحدًا واحدا/ افترشت حصاني على بابها حينما لم أزل نطفة في الأزل»، والثانية في قوله: «قد عرفتُ المدينة... أنهارها والحصى» والثالثة: «يا نساء المدينة». فالشاعر يريد أن يصور مدى انفطار قلبه على حب هذه القرية التي عاش فيها، وهذا يظهر تعلقه الشديد بها من خلال تذكره لتفاصيلها، فهي تشكل له الهوية والانتماء وهو يعتبر نفسه جزءًا من هذا الفضاء، وعلي الدميني -رحمه الله - قد عاش في إحدى قرى مدينة الباحة منذ صغره.
وجاء تكرار كلمة (البصر) في قوله: «ولا كنت آخر من أبصرا»، و»وأرقص بين يديها ومن خلفها مبصرًا وضريرًا» للتأكيد على رحيله وفراقه لحياة القرية، وفراق أهلها عنها، فهو ليس أول من عرف القرية وليس أخر من رآها وفارقها -فلم يعد يراها ويتهم المدينة بأنها هي السبب في ذلك. كما تكررت في هذه القصيدة المعاني التي عبرت عن الغربة والوحدة والحرقة والألم والتعب وكلها قد ارتبطت بمفارقة القرية.
يعتبر اللون الأخضر دلالة على كل شيء حي، وعلى قوة الحياة، فهو يرمز إلى السعادة والتفاؤل، والشاعر كرر المعاني التي صورت حياة القرية بأنها هي الحياة (حياة الروح) بارتباطها باللون الأخضر، وذلك في قوله: «استأنست زمنًا أخضرًا» وقوله: «أعشبت طفلة الروح» فهذه الحياة لا يجدها إلا في حياته في القرية، فالمدينة أشبه بالشبح الذي استولى على القرية وأخذ منها الحياة والبهجة وأخذ منها أهلها، فأراد أن يقول إن روحه في القرية خضراء كلون العشب.
إن القصيدة تصور صراع بين حياة القرية وحياة المدينة، برفض حياة المدينة والتمدن والشعور بالوحدة والغربة فيها، في مقابل الرغبة والحنين إلى حياة الماضي (حياة القرية)، وجاء أسلوب التكرار في القصيدة من تكرار العبارات، والألفاظ، والمعاني، مؤكدًا على الحنين لحياة القرية ورفض حياة المدينة، باعتبار حياة القرية هي الحياة المثالية الحقيقية التي تمثل هوية الشاعر (الأنا/ القرية) وحياة المدينة بالنسبة له هي الآخر الذي يكرهه والذي يتسبب في إحساسه بالغربة (الآخر/المدينة)، فلذلك يتمنى عودة تلك السنوات التي عاشها في القرية منذ صغره، والتي كان سبب ضياعها وجود المدينة.
** **
صالحة رشيد السلمي - مرحلة الماجستير - قسم اللغة العربية بجامعة الملك عبد العزيز