تُشكلُ الذّاكرة أحد أهم روافد الكتابة الروائيّة، حيثُ إنّها تُسهم في فتح منافذ إلى التّخييل والعبور نحو استقصاء وسبر التّجربة وعوالم الكتابة واستكناه أسرارها التّعبيريّة والجماليّة، في هذا الصّدد، يجيء كتاب :»الذّاكرة وآليات اشتغالها في الرواية العربية» للكاتب والناقد المغربي عزيز العرباوي، في سياق محاولة الولوج إلى المناطق الداجيّة للذاكرة، والأفق الذي تفتحه للكتابة التّخييليّة الروائيّة، خصوصًا أنّ الرواية العربية، قد شهدت في العُشريّة الأخيرة، انفتاحًا على التّخييل من خلال الذاكرة، وما تكتنزه من وقائع تصلح في أن تكون مادة للكتابة والتّخييل، وإذ يُشدّد الباحث في المدخل النّظري على الأهميّة المحورية للذاكرة من خلال تشكيل الهويّة التّخييليّة ودورها في بناء المعنى أو ما يُصطلحُ على تسميتها بـ»الذاكرة الدلاليّة»، من زاوية أخرى، فإنه لا يُمكننا الفصل بين الذّاكرة والتاريخ، وما الفصل بينهما إلا إجرائيّ، فالتاريخ جزءٌ لا يتجزأ من الذاكرة، وهذه الأخيرة لا تتشكل إلا في التحامها مع التاريخ، من هنا، نفهم هذه العلاقة الجدليّة التي تنتسج بين هذين المفهومين، حيث يَتَعَيَّنُ وصف هذه العلاقة بأنّها آلية من آليات تشكيل متخيّل ما، إضافة إلى تشكيل الهويّة الثقافية والهويّة السردية والوعي التّاريخي.
وحريّ التّنصيص هنا، بأن المفاهيم الإجرائيّة التي يَتَأسّسُ عليها المدخل النّظري، تجد ضالتها في عددٍ من النّقاد والمفكرين من أمثال بول ريكور، أولييفيه آبل، يان أسمان، جون لوك وغيرهم، وإن كان من دلالة نستقيها من هنا، فإن ذلك يعني، أن معالجة موضوع الذّاكرة ينطلق من منظورات مختلفة ومغايرة، لنقلْ، إن عزيز عرباوي، كرّس جهدًا مُضاعفًا في بناء الجهاز المفاهيميّ والنُهوض به نظريًا وإجرائيًا. يتناول الباحث تيمة الذّاكرة من خلال أربعة أعمال روائيّة، وهي على التّوالي: «الديوان الإسبرطي» لعبد الوهاب عيساوي، و»حصن التراب» لأحمد عبد اللطيف، و»في حضرة العنقاء والخل الوفي» لإسماعيل فهد إسماعيل و»الحي الخطير» لمحمد بنميلود، فالقسام المشترك الذي يجمع هذه النّصوص الروائيّة هو ارتهان أفقها للذاكرة كمادة للتخييل، مع ضرورة التشديد على خصوصيّة الكتابة لدى كل روائيّ، فما يُميّز رواية «الديوان الإسبرطي»، هو ارتكازها على عنصر المكان، باعتباره عنصرًا محوريًا في تأثيث أفضلية السرد وجوهرانيّة الحكي وتشكيل الشّخصية الروائيّة بتعدد أصواتها ولغاتها وهويّاتها، في حين، تجنح رواية «حصن التراب» إلى البحث عن الهويّة المفقودة عبر مساءلة الذاكرة وسواء تعلّق الأمر بالذاكرة الفردية أو الجماعيّة، فإن ذلك يعني الإقامة في الذّاكرة وسبر أغوارها وأسرارها.
من زاوية أخرى، فإن رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي» تتشكل مادتها السردية وفق وعي مبطن بقيمة الانتماء، إنها رواية تميل نحو قلق الانتساب وتشكيل الهويّة من خلال التّخييل والتوثيق التاريخي للأحداث في مسعى إلى بناء الذاكرة الثقافية والمشترك الإنسانيّ، أما رواية «الحي الخطير» فهي نص سردي يتخذ من عنف الذّاكرة ملاذًا للسرد، من حيث هي مراقد الطفولة وفورة الشباب، وبين هذا وذاك، يتمخض عنهما وعي سياسي وذاكرة ثقافية هشة ومشروخة.
إن رهان الذاكرة على الكتابة هو رهان على التّخييل في بناء المعنى وتشكيل المتخيّل والهوية الفردية والجماعية، هذا الرّهان الأفقي في استقراء الذاكرة وكشف أسرارها وخزائنها قيمن بأن يبلور وعيًا متناميًا بالكتابة، خصوصًا أن الرواية راهنًا، أضحت لسان جزء من الذاكرة الإبداعية وانعكاسًا للحياة والعالم والفرد والأشياء. وعليه، فإن هذا الكتاب، يُشكّلُ إضافةً نوعية للمشهد الثقافي العربي والمغربي على وجه الخصوص، ليس في تناوله لموضوع الذاكرة فحسب، وإنما في قدرته على النهوض بالمفاهيم الإجرائية ومحاولة تنسبيها فيما هو تطبيقي.
** **
رشيد الخديري - المغرب