شغلت قضية القديم والمحدث النقاد قديماً، واحتلت حيّزاً واسعاً من موضوعاتهم التي أكثروا فيها القول والكتابة والتأليف، وقد أُثيرت هذه القضية في العصر العباسي، وظهرت مع بروز شعراء مجددين سعوا إلى التجديد والتغيير في القصيدة العربية لغةً وأسلوبا، إذا عرف الشعر العباسي نقلة بارزة في ميدان التجديد الشعري، مواكباً بذلك التطورات الثقافية والاجتماعية والسياسية، فبرزت موضوعات شعرية جديدة، ونشأت مدرسة شعرية حديثة يأتي على رأسها: بشار بن برد وأبو نواس ومسلم بن الوليد وأبو تمام.
وما إن ظهرت قضية المحدث والقديم حتى أصبحت سببا للصراع والصدام بين التيارات الأدبية والنقدية المتعددة.
وإذا تتبعنا تاريخ الخصومة في النقد العربي نجد أن بذورها تعود للنحاة واللغويين الذين تصدوا لكل تجديد بحجة حرصهم على اللغة العربية والحفاظ عليها سليمة قويمة فصيحة، فقد كان أغلب النقاد المتعصبين للشعر القديم من أهل اللغة والنحو، ولذا نجد أنها لم تقم على «آلية نقدية فنية، فآليات القدماء آليات نحوية ولغوية»، وكانوا في تتبعهم للشعر ينتقون الشواهد الشعريّة التي تدعم القاعدة اللغوية التي يحتجون لها، ويستنبطون منها القواعد النحوية ليقيسوا عليها فيما يعترض لهم من مسائل المحدثين، وكانوا يرون أنّ اللغة العربية الصحيحة هي تلك التي تكلم بها المتقدمون من قبل أن يطال اللحنُ ألسنتهم كما هو الحال لدى الشعراء المولدين والمحدثين الذين خالطوا العجم وتأثرّت ألسنتهم بما سمعوه من لحن حتى اعتادوا سماعه، فضعفت الثقة بأشعارهم.
ولعل المواقف التي وصلتنا - عبر الكتب النقدية والأدبية القديمة- أدلة تشهد على تعصب النقاد القدامى للقديم من الشعر، ورفضهم للشعر المحدث آنذاك، بل حتى لمجرد النظر فيه ومحاولة تذوق ما فيه من جمال فني وما ينضوي عليه من معانٍ مستجدة بديعة، ونذكر من هذه المواقف مقولة أبي عمرو بن العلاء (154ه) عن الأخطل: « لو أدرك الأخطل يوما واحدا من الجاهلية ما قدّمتُ عليه أحدا»، وما روي عن الأصمعي (214هـ) أنه قال: «بشار خاتمة الشعراء، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضّلته على كثير منهم»، وكذلك ما يروى عنه عندما أنشده إسحاق الموصلي بيتين:
هل إلى نظرة إليك سبيلُ
فيُبلّ الصدى ويُشفى الغليل
إن ما قلّ منك يكثر عندي
وكثيرٌ ممّن تحب القليلُ
فقال الأصمعي: والله هذا الديباج الخسرواني، لمن تنشدني؟ فقال الموصلي: إنهما لليلتهما، فقال الأصمعي: لاجرم والله! التكلّف فيها ظاهر.
وما قاله ابن الأعرابي (321هـ) :» إنما أشعار هؤلاء المحدثين -مثل أبي نواس وغيره- مثل الريحان يُشم يوما فيذوي فيُرمى به، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حركته ازداد طيبا»، وكذلك ما رُوي عنه أنه لما سمع بيت أبي تمام:
وعاذل عذلته في عذله
فظن أني جاهل من جهله
فقال لابن المعتز: اكتب لي هذه، قال :فكتبتها له، ثم قال له: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت أحسن منها. فقال ابن المعتز: إنها لأبي تمام. قال: خرِّق خرّق.
وإذا حاولنا تحليل رؤيتهم المتمثّلة بانحيازهم التام للشعر القديم فإننا نجد أن تعصبهم هذا لم يأتِ من فراغ، فهو نتاج البيئة التي يعيشون فيها آنذاك ويتمثّلون ثقافتها، تلك الثقافة التي ربطت الشعر بالدين، فزادت من تمسكهم بالشعر القديم الذي يُعدّ ديوان العرب، ولاتصال الشعر بمهنتهم، ووقوفهم ضد تيار الشعوب المختلفة التي دخلت الإسلام، فاتصالهم بالقديم زمنا طويلا جعلهم يعيشون بعقولهم ونفوسهم في عصر غير العصر الذي يعيشون فيه، ولم يتمكنوا من اللحاق بالمعاني الجديدة التي جاءت وليدة البيئة الجديدة والحياة الأكثر انفتاحا عما عهدوه، فلما أرهقهم ذلك رفضوه دون أن يعطوه حقه بالنظر والتأمل فيه وتمييز جيده من رديئه، فالشعر المثالي عندهم هو الشعر القديم، وهو المعيار والنموذج الذي يجب أن يُحتذى ويُهتدى به، وكلّ ما خالفه أو جدّد فيه شكلا أو مضمونا فقد جنح وانحدر وجانب الأصالة.
ولم يكن أيٌّ من النقاد بمنأى عن قضية القديم والمحدث، إذ شغل الصراع الدائر اهتمامهم وشدّهم الحديث فيه ما بين شدّ وجذب، فانقسموا إلى ثلاثة أقسام: قسم تحيّز للقديم، وآخر ناصر المحدثين، وثالث اتخذ موقفا وسطا بينهما، وقد كان للمحدثين مَن ينصفهم من النقاد من أمثال ابن رشيق القيرواني وابن قتيبة وغيرهم، ولعل الجاحظ هو أول من حاول إنصاف الشاعر المحدث إذ رفض التعصب للشعر القديم بقوله: « القضية التي لا أحتشِم منها، ولا أهاب الخصومة فيها أن عامة العرب، والأعراب، والبدوِ والحضر من سائر العرب، أشعر من عامة الأمصار» فالجاحظ لم يقم معياراً للزمن في تفضيله شعر الأعراب على شعر الأمصار، بل ينتصر للشعر الجيد سواء كان محدثا أو قديما، لكنه يرى أن العرب المحدثين أفضل من المولّدين ف ي قول الشعر.
وهذا ابن قتيبة ينصف المحدثين بقوله في مقدمة كتابه: «الشعر والشعراء»: «ولم أسلُكْ فيما ذكرت من شعر كل شاعر مختارًا له سبيلَ مَن قلَّد أو استحسن باستحسان غيرِه، ولا نظرتُ إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمِه، ولا المتأخِّرِ بعين الاحتقار لتأخُّرِه، بل نظرتُ بعين العدل إلى الفريقين وأَعطَيْتُ كلاًّ حظَّه، ووفرت عليه حقه»، وقال أيضًا: «فإني رأيت من علمائنا مَن يستجيد الشعر السخِيف لتقدُّم قائله، ويضعه في متخيَّرِه، ويرذل الشعر الرَّصِين، ولا عيب له عنده إلاَّ أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله، ولم يقصِر الله العلم والشعر والبلاغة على زمنٍ دون زمن، ولا خَصَّ به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتَرَكًا مقسومًا بين عباده في كلِّ دهر، وجعل كلَّ قديمٍ حديثًا في عصره.
وأرى أن التفاضل في القصائد الشعرية لا يكون المعيار فيه حسب الزمن وتقدم قائلها أو تأخّره، إنما يحكمه معيار الجودة الفنية وشرف المعاني وجلاء التعبير وفصاحة الألفاظ وحسن اختيارها وإتقان نظمها وبراعة سبكها وحبكها ومدى تأثيرها في المتلقي والوصول إلى قلبه ومخاطبة مشاعره واستثارة وجدانه، فبذلك تتنافس القصائد وترتفع قيمتها، فتخلد عبر الزمان، وما تزيدها الأيام إلا نضارة وحلاوة، وأستدلّ على ذلك بقصائدَ خلدت حتى وقتنا الحاضر رغم مرور السنين وتوالي العصور، وبقيت حاضرةً تتداولها الكتب وتترنّم بها الألسن وتستشهد بها المؤلفات، وأذكر منها: قصائد أبي تمام والمتنبي والبحتري وأبي فراس الحمداني، هؤلاء الذين كان يعدّهم القدامى مولّدين لا يقرّون بفضل أشعارهم وقيمتها، كما أذكر بعضا من شعراء العصر الحديث والمعاصر الذين ينافسون بشعرهم مَن سبقهم، ومنهم: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإيليا أبو ماضي وعمر أبو ريشة وبدر شاكر السياب ومعروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري وغازي القصيبي ومحمود درويش وغيرهم.
** **
ردينة أحمد إدريس - المملكة العربية السعودية - طالبة دراسات عليا - جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن