د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
لاحظ النحويون أن اسم التفضيل يصاغ على (أفْعَل) من الفعل الثلاثي المجرد، المثبت، التام، المبني للفاعل، الدال على تفاضل، وليست الصفة المشبهة منه على (أفْعَل)؛ نحو أحمر وأبكم، فإن أريدت المفاضلة في سوى ذلك أي «إذا قصد بناء أفعل التفضيل من الزائد على الثلاثي أو من الألوان والعيوب الظاهرة، توصّل إلى بنائه من فعل ثلاثيّ يصحّ بناؤه منه كأشدّ وأسرع ونحوهما، ثم يؤتى بمصادر تلك الأفعال فتنصب على التمييز، فيقال: زيد أشدّ من عمرو استخراجا»(1).
ونجدهم(2) نصوا على أن ما جاء حسب الشروط يجوز أن يأتي على الطريقة الأخرى، نجد ذلك في حديثهم عن صيغتي التعجب (ما أفعله وأفعل به) والشروط واحدة؛ فالقول ينطبق على اسم التفضيل، قال أبوحيان(745هـ) «ولا يختصُّ هذا الحكم بما فُقد فيه شرط من الشروط، بل يجوز هذا الحكم فيما استوفى الشروط، فتقول: ما أَكْثَرَ ضَرْبَ زيدٍ لعمرٍو! وأَكْثِرْ بِضَربِ زيدٍ لعمرٍو! وما أَكْثَرَ ما ضَرَبَ زيدٌ عمرًا! وأَكْثِرْ بما ضَرَبَ زيدٌ عمرًا»(3)، وقال ابن عقيل(769هـ) «ثم هذا العمل لا يختص بما عدم الشروط، بل يأتي في المستوفي للشروط، وهو واضح»(4).
نفهم من قول النحويين أن ما يصاغ بالمباشرة يسوغ أن يصاغ من غير مباشرة، وذلك ليقضي المتكلم غرضًا إبلاغيًّا وبلاغيًّا، فأنت تقول: زيدٌ أعلم من عمرٍو، ولك أن تقول: زيدٌ أوسع من عمرٍو علمًا، جاء في (تهذيب اللغة) «وَكَانَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء أوسعَ علمًا بِكَلَام الْعَرَب وغريبها»(5).
ومن الفعل (قال) تقول: هو أقْوَلُ منه، ولكن جاء قوله تعالى ( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) (المزمل-6)، فليست المفاضلة بين قولين مفاضلة عامة بل هي خاصة، قال الفارسي «وهو أقوم قيلا: أي: أشدّ استقامة وصوابًا لفراغ البال وانقطاع ما يشغل»(6).
ونجد في قوله تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (البقرة-74) عدولًا من (أقسى) إلى (أشدّ قسوة)، فثمة قسوة عامة وأخرى خاصة، قال أبوحيان «إِذْ مَا كَانَ أَشَدُّ، كَانَ مُشَارِكًا فِي مُطْلَقِ الْقَسْوَةِ، ثُمَّ امْتَازَ بِالْأَشَدِّيَّةِ»(7). وهذه مسألة استوقفت الزمخشري قال «فإن قلت: لم قيل: أشد قسوة، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب؟ قلت: لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة. ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة، كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدّ قسوة»(8). وعلق أبوحيان قال «وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَفِعْلُ الْقَسْوَةِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ أَنَّ قَسَا يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ بِجَوَازِ اجْتِمَاعِ الشَّرَائِطِ الْمُجَوِّزَةِ لِبِنَاءِ ذَلِكَ، وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ مُجَرَّدٍ مُتَصَرِّفٍ تَامٍّ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ، وَالنَّقْصِ مُثْبَتٍ»(9).
وأبوحيان نفسه استعمل الطريقة غير المباشرة ففي معرض تفسيره لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)(البقرة-26)، قال «وَكُلَّمَا كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَشَدَّ حَقَارَةً كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَكْمَلَ»(10). فأنت تراه عدل عن (أحقر) إلى أشد حقارة، لأنه المراد فوق المفاضلة في الحقارة وهو شدة الحقارة. وعدل من (أدل) إلى أقوى في الدلالة، قال «فَكَانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْحِكْمَةِ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالْكَبِير»(11).
ونجد هذه الطريقة للمفاضلة بين الجوامد لا الصفات، نحو: أنا أكثر منك مالًا أي مالي أكثر من مالك، فالمفاضلة ليست للمبتدأ بل لسببيه وهو المال.
ننتهي إلى أن الطريقة الثانية هي للمفاضلة في ما لا تتحقق صياغة (أفعل) منه أو أريد بيان فضل معنى زائد عن أصل موضوع المفاضلة كالكثرة والقلة والعظم والقوة والشدة ونحوها من المعاني التي تخصّص المفاضلة.
(1) أبوالفداء الملك المؤيد، الكناش في فني النحو والصرف، 1/ 341.
(2) كنت نفيت حين نشر هذا المبحث أول مرّة أن يكونوا نصوا على جواز الطريقة غير المباشرة مع ما تنطبق عليه الشروط حتى نبهني أخي الدكتور
سليمان العيوني حفظه الله إلى أنهم نصوا على ذلك وزودني بالنصين اللذين ذكرتهما.
(3) ابن عقيل، المساعد على تسهيل الفوائد، 2/ 165.
(4) أبو حيان، التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل،10/ 245.
(5) الأزهري، تهذيب اللغة، 1/ 9.
(6) الفارسي، الحجة للقر اء السبعة، 6/ 335.
(7) أبوحيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، 1/ 424.