تسللتَ خفية من بين أنظار حرّاس الأمن، اتكأتَ على ألم كاذب فولجت الممر الطويل المُفضي إلى غرفة الكهل، كان الوقت ضحى، طلابك في القاعة ينتظرون قدومك، وكنتَ ملتفّاً بهواجسك القديمة، صدرك يتأجج كمرجل، خداك متوهجان ينضح منها غيظ تكفكفه ولا يرعوي، جلبتَ معك سواده وعفنه، ألا ترى أنه يستحق الشفقة الآن وهو مستلقٍ على فراش مرض لا يُرجى بُرؤه، قتلكَ ألف مرّة.. نعم! نهل وارتوى من دمك.. نعم! حارب بزوغك وانتصارك وفوزك.. نعم! تقصّد هدمك وتشفّى بخيباتك.. نعم!
لكنه الآن يغادر، يغادر بإثمك وسوئه، وستصحو السماء غداً، وتُعيد العنادل غنائها القديم، وتستيقظ نفسك النقيّة ثانية، فلماذا تأتي الآن هنا؟ لماذا لا تدعه يغادر دون أن تحمّله خوفاً آخر في الشطر القليل المتبقي له في هذه الحياة؟
فتحتَ باب غرفته، وأغلقته ثانية بعد أن دخلت، لا أحد حوله، فليس هذا وقت الزيارة، الكهل يتنفّس بصعوبة، وعلى أنفه جهاز التنفّس، دسستَ شفتيك في أذنه اليمنى، ماذا قلتَ له؟ هل هددته؟ هل أنذرته؟ هل خوّفته من عذاب يوشكُ أن يقع به؟
خفِفْ من وطأة أحمالك فلن تستطيع أن تقف ثانية، لن تتمكّن من العودة وقد جمعتَ أرتالاً من شقاء وعناء.
كُف عن توغلك داخله، الكهل مسجّى، وليس من الفروسية أن تعمل أعمالك هذه في حالة ضعفه القصوى، تبحث عن خيباتك داخله؟ هذا هراء! فكيف يجمع الآن خيباتك وهو لا يعي ما حوله؟
هل تقول أنك تريد ترتيب داخله؟ كيف!
قد تفتح الممرضة عليك الباب في أي لحظة، ماذا ستقول لها؟ جئت لأزوره في غير وقت الزيارة، جئت لأنتقم منه، أم جئت لإعادة ترتيب داخله!
يجب عليك التوقف فوراً عن متاهاتك هذه، وتعود إلى طلابك الذين برموا من طول انتظار دخولك عليهم.
تنتهي من وشوشة أذنه أحاديثك الطويلة، تقول لنفسك - منتشيّاً ـ إنه أدرك واستعاد كل ما فعله بي منذ وفاة أبي، منذ أن تلقف بياضي وتفحّصه، منذ أن علّقني بين عينيه ونفث على صفحة بياضي كل مداد قلبه الموغل في السواد، إلى أن صنع منّي كائناً مشوّهاً!
بدأت أنفاس الكهل تتلاحق، تراقصت وجنتيه واحمرتا، الكهل يعاني من شيء ما، الكهل يتهيأ للانفجار في أي لحظة، وأنت تضع يديك على صدرك وتتأمّل كل ما يحدث أمامك ببرودة وانتقام شرير، إذن سمع الكهل منك شيئاً أفزعه، إذن أدرك الكهل كل ما مضى، وربما تكون حالته هذه المتفاقمة رغبة ملحّة داخله للاعتذار منك، لماذا لا تقترب منه، تحضنه، تمسح حزنه وغضبه، ها هو يعود محتدماً، نادماً، طالباً غفرانك ومسامحتك، لماذا تبدو قاسياً منتقماً، يمور غضبٌ داخل الكهل، يكاد يسقط جهاز التنفس الاصطناعي، الكهل يثور.. يتفجّر، وفي غمرة عنفوان رجائه، تقترب أنت من وجهه، تنزع عنه جهاز التنفس الاصطناعي، لحظات ويخمد الكهل، تشعر أنك ألقيت أثقالك التي أتيت بها وتعود إلى طلابك المنتظرين دروسك!
** **
- عبدالكريم بن محمد النملة