ربما يكتب كاتب شيئًا من رؤى يراها، أو قصصًا يرويها، أو أفكارًا وتأمُّلات، وتبقى عنده أسيرة التروي، وحبيسة التنقيح، أو ضحية التسويف والتأجيل، ما لم يُسعَف بشيءٍ من جُرأة، ونفح من حزم، أو نصح ناصح، وتشجيع خبير.
وما كنت لأسلك إلى الكتابة دربًا لولا نظرات من محب ناصح، وأستاذ خبير، يرى ما أكتب فيشجع على نشره، وكم من منشور صادف أثرًا، ولقي قبولاً، فكان هو صاحب فضله، وفالق صبحه.
وكنت قد اشتغلت بالنحو دراسةً وتدريسًا، وبحثًا وتأليفًا، فما ظننت بأن لي من سهم في غيره، وخصوصًا بعد أن نأى عني الشعر فنأيت عنه، لما نظرت إلى ما كتبت فرأيته أبعد ما يكون عن الشعر، فلا أنا لاحق بركبه، ولا معدود من أهله، فكان النأي عنه خاتمةَ علاقتي بالكتابة الأدبية، إلا أن أكتب شيئًا له بتخصصي عُلقة، أو متصل به بسبب.
ولما سلخت أكثر عشر الأربعين من العمر، وصرت كهلاً في عرف معجمات اللغة، وخفتُ أن تكل الذاكرة عما كانت قد حفظت، كتبت شيئًا مما خبرته، وكيف وعيته وأدركته، ثم اصطفيت منه فصلاً جمعه موضوع واحد، عُنيت به، تقسيمًا وترتيبًا، وكان في مائة صفحة أو يزيد، ولما كنت لا أعرف قيمة ما أكتب، ولا أحدس منزلته عند من متلقيه، فقد هديت إلى أن أرسله إلى أستاذ بلغ من الخلق ما بلغ، تواضعًا ولطفًا، ومن مُلك عنان البيان لغةً وذوقًا، الدكتور إبراهيم بن عبد الرحمن التركي، فاستأذنته وأرسلته إليه ضحى يوم صائف، وهو في مصطافه في لبنان، وقدرت أن يرد عليّ بعد أسبوع أو يزيد، هذا إن لم يؤجله إلى أن يعود إلى الرياض، فلم يمضِ إلا ساعات قليلة حتى أرسل إلي كلامًا طويلاً، تضمن إعجابًا وثناءً، وتشجيعًا وتحفيزًا، ثم أرسل ملحوظات على جملة كبيرة من صفحاته، لا أشك بعدها أنه قرأه حرفًا حرفًا، وظللت متفكِّرًا بسرعته، ومتعجبًا من مبادرته، ومقدِّرًا ذلك الفضل الذي تفضل به، وكان ما كتبه زادًا من التشجيع، ودرسًا من التقويم، غير أن أعظم ما زاد ثقتي، وطمأنني إلى معرفة مقدار ما كتبتُ أنه قرأه بجلسة واحدة، ولما يسرِ الملل إليه!
كانت تلك الاستشارة مفتتح استشارات، وما زالت أفضاله متوالية، وتوجيهه مستمرًّا، حتى اخترت أن أكتب سلسلة من هذا الباب في المجلة الثقافية، فكانت هذه الزاوية (وكان من خبره)، وما كنت مستحقًّا لذلك المكان الذي يفسح لي فيه، لعدم انتظامي، لولا لطفه وحلمه.
وكنت عرفت أبا يزن كاتبًا ملهَمًا ملهِمًا، ومُقدمًا مبهرًا، وربما كان تقديمه أكثر ما يشدني في الحفل الذي يقدمه، أتعجب من استشهاده كيف وافق سياقه، ومن كلماته كيف وقعت موقعها، ومن ذلك الجناس التي أظل مشدوهًا كيف غاب عمن قبله، أما قفلاته التي يختم بها مقالاته فإلهام في الاختصار، وبراعة في الاختيار، ولو جمعت تلك القفلات لكانت ديوان حِكم!
ولعل مهرجانات عنيزة الثقافية كانت صاحبة فضل علي في كشف شيءٍ من مواطن تميزه واختلافه، لقد كان موضوعيًّا منصفًا، تأتيه الأسئلة من الجمهور في ندوة عن شخصية ثقافية ثار حولها الجدل، فلا ينتقي منها ما يميل إليه، ويترك ما يخالفه، حتى وإن تكرر السؤال، وتدافع المشاركون الإجابة! لقد كان منصفًا حقًّا، لم يُعهد عليه عنصرية أو تحيُّز، إلا لما يراه حقًّا.
إذا أنجز المرء شيئًا بعد لأي، أو حصَّل ثمرة بعد تعب، لم يتراءَ له إلا جهده وتعبه، وصبره وإصراره، وربما ذكر الوفي من وقف معه مواقف ظاهرة، وقدم له مساعدة صريحة، ولكنَّ شيئًا من الفضل كثيرًا ما يخفى على المرء، فربما كان الفضل لصاحب لفتة الواحدة، أو نصيحة عابرة، أو هدية معبِّرة، هدت إلى طريق النجاح، وربما عاد الفضل إلى قدوة ملهمة، أو تَتَلمُذٍ على نتاج غني يصنع متلقيه، أفينسى الوفي هذا الفضل!
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم