د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الأزمة التي مرَّ بها العالم في الفترة الأخيرة ابتداءً بوباء كورونا، وما بعده من حرب بين روسيا وأوكرانيا، جعلت الأوراق الاقتصادية والسياسية والأمنية العالمية تتبعثر هنا وهناك، والأسهم العالمية تتقاذفها الرياح، وتترنح من غياب الحقيقة والإفصاح، تهوي إلى القاع، ثم تعود بقوة إلى الارتفاع، يدفعها فعل صريح، أو تصريح غير صحيح، وهي في هذا المسار الزنبركي العجيب، تكدم الأسواق الغافل والأريب، ويفقد فيها المستثمر ما جمع في عمره، وما قدم من جهد في دهره، لكنها الأيام تريك جمالها تارة، ثم تسحب بساطها غدارة، وكأنها تحاكي مثلاً قديماً قاله سكان مصر قبل أربعة آلاف عام مضت، حيث قيل: الرزايا في ثياب العطايا، أو كما قال أبو الوليد بن زيدون، قبل أكثر من ألف عام:
لَيسَ الرُكونُ إِلى الدُنيا دَليلَ حِجىً
فَإِنَّها دُوَلٌ أَيّامُها مُتَعُ
تَأتي الرَزايا نِظاماً مِن حَوادِثِها
إِذِ الفَوائِدُ في أَثنائِها لُمَعُ
لكنها الأماني والآمال، وكأن الإنسان السوي يسير على معنى عجز بيت يقول: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، سيعيش الإنسان كما قدَّر الله له أن يعيش، ويكابد في دهره ما يجعله يركن أو يريش، شمس وقمر، وآيات وعبر، وكل في طريقه سائر، وبما قدّر له الله عابر.
نعود إلى الحديث عن الأزمة الآنية، الروسية الأكرانية، وقد جلبت معها للأسواق معول هدم، فتدحرجت الأسواق تدحرج من زلت به الساق، يقول الشاعر الحطيئة:
فَالشِعرُ صَعبٌ وَطَويلٌ سُلَّمُه
إِذا اِرتَقى فيهِ الَّذي لا يَعلَمُه
زَلَّت بِهِ إِلى الحَضيضِ قَدَمُه
وَالشِعرُ لا يَسطَيعُهُ مَن يَظلِمُه
يُريدُ أَن يُعرِبَهُ فَيُعجِمُه
وَلَم يَزَل مِن هَيثُ يَأتي يَحرُسُه
وهذا لا ينطبق على الشعر فحسب، لكنه زمان الحطيئة ورأس ماله الذي يتكسّب به في مدح ذوي النهى، أو هجومه لمن بخل وجفا، فمن مدحه أعطاه، ومن هدد بهجائه خشيه وأسداه، فهو غانم في كلتا الحالتين، وهذا لا ينطبق على زماننا، وسلوك أسواقنا، فهي لا تكاد تعطي حتى تأخذ، أو ترتفع حتى تحن إلى النزول، تسيرها الأزمات، وليس الأساسيات، وتوقع النمو، وليس الحقيقة الظاهرة، والعطية العاجلة، من خلال توزيع الأرباح، والاستفادة مما هو متاح.
دعونا من النسيج الأدبي، وإن كان يطرب الأسماع، لما له من جمال إيقاع، لنذكر ما انطوت عليه الأزمة من أثر واضح على الأسواق، والمستثمرون في هذا بين متفائل بقرب انتهاء هذه الأزمة الطارئة، كما يظنها، أو خائف يحسب الحساب لكل قادم، ويتوقف عند كل صغيرة وكبيرة، ولا يرى أن في الأفق بارقة أمل تلوح في القريب العاجل، وبهذا يتخذ قراره، وعلى أساسها يدبر أمواله، سواء قلت أو كثرت، والحقيقة أن اتخاذ القرار في فترة الأزمات يحتاج إلى خليط من الشجاعة والحذر، وهذا أمر جمعه عسير، وفعله غير يسير، لكنه ممكن لمن هو بالأسواق بصير، ولا أحسب أن الإنسان سيكون عاجزاً عن الاجتهاد في ما يظنه صواب، ويبقى التوفيق بيد الباري سبحانه وتعالى، فهو المعطي وهو الأخذ لحكمة بالغة، لا يعلمها إلا الله وهو بكل شيء عليم.
في ظل الأزمات تغيب أساسيات السوق، وتلعب التوقعات والنفسيات، وقبلها التوفيق من الله جلَّ وعلا دوراً كبيراً في اتخاذ القرار، والاستفادة من ما هو متاح في السوق، ولا شك أن هذا هو السائد في ظل هذه الأزمة الراهنة، لمن كان مستثمراً، أو أراد أن يدخل في استثمار جديد، لكن في ظني أن الوضع سيشهد كثيراً من الارتفاع والانخفاض الحاد، وعدم اليقين وسيكون ذلك ظاهراً مدة طويلة، بطول بقاء الأزمة، وكيفية التعامل معها، وما سوف يتخذ من الإجراءات التي تتعلَّق بالأسواق، وأيضاً، المواد الخام، وما يتبعها من جمارك وضرائب ونحو ذلك وهذا كله يؤخذ في الاعتبار، عند اتخاذ أي قرار.
التضخم كان متوقعاً، والآن أصبح واقعاً وحقيقة، وانعكس أثره على القاطن العادي في جميع دول العالم، الغنية منها والفقيرة، والمتقدمة أو التي في مرحلة النمو، أو تلك التي لم تزل تحبو حبواً، ولا شك أن أثرها سيكون أكبر على الدول الفقيرة التي لا تملك الأدوات اللازمة للخروج من الأزمة، ودفع ما يستحق الاستيراد، من أموال طائلة نتيجة لهذه المحنة، ناهيك عن توفر السلع وعلى رأسها السلع الغذائية، مثل القمح والزيوت والحبوب بأنواعها، وكما نعلم فإن هذه هي صلب الحياة، ارتفاعها بدرجة كبيرة، لا بد أنه سيكون له أثر كبير وتداعيات تؤثّر في بعض الدول غير القادرة ذات الدخل المحدود، حيث لا يمكنها توفير الغذاء الكافي لمواطنيها، والغذاء الأساسي هو الذي يجعل الإنسان بالكاد يعيش، ونحمد الله على ما نحن فيه من أمن ونعم.