د. عبدالحق عزوزي
أدلى البريطانيون منذ أيام بأصواتهم، في انتخابات محلية بدت حاسمة لإيرلندا الشمالية، إذ حقق حزب «شين فين» الجناح السياسي السابق للجيش الجمهوري الإيرلندي أول فوز انتخابي له في تاريخ إيرلندا الشمالية؛ ولا غرو أن هذا الفوز يعتبر مرحلة فارقة في هاته المنطقة الحساسة من أوروبا التي تسيطر عليها بريطانيا والتي يبلغ عدد سكانها 1.9 مليون نسمة؛ وهي أوّل مرّة خلال مائة عام يتصدّر «شين فين» الانتخابات في هذه المقاطعة التي تشهد توتّرات على خلفيّة بريكست، وهو ما سيُتيح للحزب تسمية زعيمته السيدة ميشيل أونيل رئيسة وزراء محلّية، والتي اعتبرت أن بلادها بصدد دخول «حقبة جديدة» داعية إلى «نقاش صادق» حول توحيد الإقليم مع جمهورية إيرلندا.ولو أن انتصار شين فين لن يغير من وضع المنطقة شيئاً لأن الاستفتاء المطلوب لمغادرة بريطانيا يخضع لتقدير الحكومة البريطانية والذي من المحتمل ألا يجري قبل عدة سنوات، فإنه استناداً إلى اتّفاقية السلام المبرمة في سنة 1998، فمن المفروض أن تتزعم ميشيل أونيل رئيسة للحكومة المحلية يتقاسم فيها القوميون والوحدويون السلطة.
السيدة أونيل أبدت سعادتها لنتائج الانتخابات وقالت إن «الشعب قال كلمته»، وفي تدخل نقلته وسائل الإعلام الدولية، شددت على أن حزبها سيكون عند مستوى المسؤولية، ومبديةً أملها في أن يكون الآخرون على هذا النحو، خاصة في ظرفية أوروبية صعبة موسومة بالحرب في أوكرانيا وغلاء المعيشة في بريطانيا... ولكن المهم من تدخلها هو موقعها من الضبابية التي خيمت على إيرلندا الشمالية في شباط/ فبراير بعد استقالة رئيس الوزراء الوحدوي الديموقراطي بول غيفان اعتراضاً على وضعية المقاطعة في مرحلة ما بعد بريكست؛ ففي هذا الجانب أشارت إلى ضرورة القيام «بنقاش هادف» بشأن إعادة توحيد إيرلندا، بعد قرن على إلحاق إيرلندا الشماليّة بالحكم البريطاني... ونظراً لحساسية الوضع، والتاريخ الصعب الذي مرت منه المنطقة، خاصة بين القوميين الداعمين لإعادة توحيد إيرلندا، والوحدويين الذين يريدون البقاء جزءاً من المملكة المتحدة، دعت الولايات المتحدة المسؤولين في إيرلندا الشماليّة إلى تقاسم السلطة استناداً إلى ما ينصّ عليه اتّفاق السلام لعام 1998. وقال المتحدّث باسم الخارجيّة الأميركيّة نيد برايس «ندعو قادة إيرلندا الشماليّة إلى اتّخاذ الخطوات اللازمة» لتشكيل «حكومة تشاركيّة (بين الوحدويّين والقوميّين)، وهو أحد البنود الرئيسة لاتّفاق الجمعة العظيمة لعام 1998»؛ونحن نتذكر هنا أحداث «الأحد الدامي»، التي جرت منذ أزيد من خمسين سنة والتي من بين الفصول الأكثر دموية على مدى عقود من أعمال العنف بين القوميين الكاثوليك والوحدويين البروتستانت؛ إذ أسفرت أعمال العنف عن مقتل حوالي 3500 شخص لتنتهي إلى حد كبير عام 1998 باتفاق «الجمعة العظيمة» للسلام.
موضوع إيرلندا الشمالية امتحنت فيه شخصياً في امتحان الشفوي للتخرج من معهد العلوم السياسية في تولوز الفرنسية منذ أزيد من عقدين؛ إذ سئلت عن أهم الفاعلين السياسيين في هاته المنطقة والتوازنات السياسية الممكنة في المستقبل؛ انطلق دائماً من مبدأ أن ما يجري في إيرلندا الشمالية هو قائم على التعتيم والأكاذيب وتشويه للحقائق؛ فمثلاً وقبل خمسين عاماً، أعلن الجيش البريطاني خطأً أن القوات المظلية تعرّضت لإطلاق نار من قبل «إرهابيين» من «الجيش الجمهوري الإيرلندي»؛ لكن الحقيقة لم تظهر إلى أن خلص تحقيق رسمي عام 2010 إلى أن المتظاهرين كانوا عزّلاً وأصيب بعضهم بإطلاق نار من الخلف أو عندما كانوا على الأرض أو يلوحّون بمناديل بيضاء؛ واليوم سلّطت مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي الضوء على مدى هشاشة التوازن الحساس الذي أسس له اتفاق العام 1998 للسلام؛ ونحن نعلم أن ملف إيرلندا الشمالية والقواعد التجارية الجديدة للإقليم البريطاني في أعقاب بريكست، تُوتر العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
وقد خيم الملف على قمة مجموعة السبع التي سبق وأن عقدت في جنوب غرب إنكلترا، حيث يريد قادته الظهور كجبهة موحدة حريصة على النهج متعدد الأطراف لتحفيز الانتعاش في مرحلة ما بعد الوباء ومكافحة التغير المناخي؛ ولكن مع بقاء إيرلندا الشمالية ضمن الاتحاد الجمركي والسوق الأوروبية الموحدة، فإن تلك القواعد تعد مصدر توتر في الإقليم البريطاني، بل وتسبب حتى بمواجهات عنيفة في الإقليم.
وتعقد بين الفينة والأخرى محادثات بين الاتحاد الأوربي وبريطانيا في هذا الشأن، ولكن من دون إحراز أي تقدم... وكل هذا يوحي بأيام سياسية عسيرة تنتظر مستقبل إيرلندا الشمالية.